ليس الحوار مجرد تبادل للكلام،بل إنه استعداد قبلي لقبول الآخر بصفته طرفا فاعلا في إنتاج المعنى،و هو أيضا-على مستوى الجماعات و الأمم و الشعوب-استعداد ثقافي مسبق لقبول حق الآخر في الإعلان عن ذاته و الحفاظ على حقه في أن يوجد في ثقافة مقابله كما هو موجود في حياته.و ليست هناك من حضارة تمثلت هذا الدور في ثقافتها الحوارية مثلما تمثلته الحضارة العربية و الإسلامية؛و ذلك بفضل مكونها المعرفي ،الذي تميزت به دون سائر الحضارات،ألا و هو السماع ،حتى قيل عن هذه الحضارة إنها حضارة سماع قبل أن تكون حضارة كلام،و حضارة قراءة قبل أن تكون حضارة كتابة و تدوين. فحضارة تعطي الأسبقية للسماع في بناء أنساقها المعرفية و أسلوبها في العيش و طرائقها في التفكير،هي-بالضرورة-حضارة حوارية،بل إنها تمثل هذا الحوار في أرقى مظاهره،ألا وهو نكران طغيان الذات؛و ذلك طالما أن السماع يقتضي الأخذ بعين الاعتبار لأسبقية الآخر في التحاور،وأي،بجانب ذلك،حضارة مسالمة طالما أن الحوار،الذي ينبني على السماع، لا يمكن أن يتحقق تحت ضوضاء الرصاص و القنابل،و إذن لانتفى السماع،و لحل الدمار محل البناء.و لهذا لا يمكن القول إن تحاورنا في العصور الوسطى-مع مختلف ثقافات العالم القديم،كان من منطلق القوة السياسية و الاقتصادية و العسكرية التي كان المجتمع الإسلامي يتمتع بها آنذاك،بل كان،و هذا هو الأصل،من منطلق الإحساس بجسامة المسؤولية الحضارية الملقاة على عاتقنا؛فقد كتب علينا أن تكون رسالتنا الحضارية-الإسلامية رسالة عالمية،إنما مع احترام الخصوصيات الإقليمية للمجتمعات و الشعوب،فكما احترمنا هذه الخصوصيات بالنسبة للموالفين لنا في النحلة،عن طريق إدماج ما لا يهدم أصلا في الشريعة من أعرافهم،احترمناها بالنسبة للمخالفين لنا فيها(ما لم تهدم أعرافهم أصلا من أصول الشريعة)،فكان مرجعنا في احترام الخصوصيات واحدا،لنا و لغيرنا.و بلغة العصر،لم نكن لنكيل بمكيالين،لأننا-ببساطة-أردناه عالما مميزا: واقعه الاختلاف و غايته الوحدة.و لو ما للسماع من القدرة على بلورة هذا الاختلاف و الاعتراف به لكانت غاية وحدة العالم في المنظومة الحضارية العربية و الإسلامية متحققة عن طريق سياسة الحديد الدم،و الحال،أن المخالفين،قبل الموالفين،لهذه الحضارة يعلمون أن الأشكال السلمية التي اتبعتها في سبيل تحقيق غايتها كانت هي السمة المميزة لها. الغرب والحوار الحضاري و السؤال،الآن،هو: هل الحضارة الغربية اليوم مؤهلة لخوض غمار الحوار الحضاري،بما هو سماع،أي بما هو بناء مشترك للمعنى،و اعتراف بأسبقية الآخر و بخصوصيته و اختلافه،؟هل هي مستعدة لبناء حوار بعيد عن السياسة البسماركية،أم أنها مهووسة بالاستنساخ الحضاري،قياسا على الاستنساخ الجيني؟هل هي مؤهلة ثقافيا لنكران طغيان الذات،أم أن ثقافتها لا يمكن أن تنتج سوى شكل أحادي للحوار ينطلق من ذاتها و لا يعود إلا إليها؟ هناك مداخل متعددة للإجابة على هذه الأسئلة،من بين هذه المداخل ما أسميته ب :حرب الشك بلا يقين، و هي الحرب التي خاضتها الولاياتالمتحدةالأمريكية و حلفاؤها على العراق تحت دعوى امتلاكه لأسلحة دمار شامل.و لقد تم توجيه هذه الدعوى-دوليا- نحو اتجاهين مختلفين؛اتجاه تزعمته فرنسا التي حكمت بعدم شرعية الحرب على العراق،و اتجاه تزعمته أمريكا التي دافعت عن هذه الشرعية،و يبدو أن الاختلاف بين هذين الاتجاهين مرتبط بصلب معنى كلمة: دعوى ؛فأن أدعي بأنك تملك شيئا فهذا يعني أحد أمرين:فإما أن تكون ممتلكا لهذا الشيء،حقا، أو إما ألا تكون كذلك،و في الحالتين،معا،يتخذ الادعاء صورة (الشك) في مضمونين مختلفين: أحدهما مثبت(=وجود الشيء) والآخر منفي(=عدم وجود الشيء).و بهذا نكون-بخصوص الخلاف حول شرعية الحرب على العراق- إزاء القضيتين الآتيتين: ا-(أشك في وجود أسلحة دمار شامل بالعراق ) ب- (أشك في عدم وجود أسلحة دمار شامل بالعراق ) إن (الشك) في الموجود ك (الشك )في اللاموجود؛إذ كلاهما يرجع إلى موقف ذاتي من قضية؛فأن أشك في قضية مثبتة (=و جود أسلحة...)فهذا ما يمثل -من الناحية الحجاجية-طريقة أخرى للقول إن هذه الأسلحة غير موجودة.و أن أشك-بالمقابل-في قضية منفية (=عدم وجود أسلحة... )فهذا ما يمثل طريقة أخرى للقول إن هذه الأسلحة موجودة. و هذا إنما يدلك على أن نفي الموجود- عن طريق الشك في القضية المثبتة و إثبات المنفي -عن طريق الشك في القضية المنفية- ليس إلا انعكاسا لفعل الشك في القضية،و لهذا الانعكاس من التأثير ما يجعله قادرا على بلورة الموقف السلوكي و الاختيار العملي لصاحب القضية؛ألا ترى أنك إذا قلت-و قد أردت زيارة صديق-:( أشك فيأن يكون صديقي في بيته،الآن)وجدت نفسك مسوقا إلى العدول عن زيارته،و أنك-بالمقابل-إذا قلت: (أشك في ألا يكون صديقي في بيته الآن)و جدت نفسك مسوقا إلى زيارته؟فما وجدت نفسك مسوقا إليه ليس إلا نتيجة لتأثير ذاتية الشك في القضيتين،معا،و إلا فقد يكون صديقك موجودا حيث ظننت أنه غير موجود،و قد يكون العكس هو الصحيح أيضا.و بالمثل؛فقد تكون أسلحة الدمار الشامل موجودة،من حيث ظن صاحب القضية المثبتة نقيض ذلك،و قد يكون العكس هو الصحيح،فلا الشك في القضية المثبتة يبرر الإحجام عن الدخول في العمل(=الحرب)،و من ثم الحكم بعدم شرعيته،و لا الشك في القضية المنفية يبرر الإقدام على العمل،و من ثم الحكم بشرعيته؛فإن كلا من الإحجام والإقدام يحتاج إلى دليل يقيني،من غير جنس الشك،و هو دليل عام،سواء بالنسبة إلى الشك في القضية المثبتة أو الشك في القضية المنفية،و يتعلق الأمر هنا بالتحقق الواقعي من القضية؛أي بوجود مرجع يحدد معناها الأصلي ويرفع الاحتمال عن معناها الذاتي و يضفي المشروعية عن الدخول،أو عدم الدخول،في العمل. حوار الشك إن قضية بدون مرجع قضية زائفة،هذا-على الأقل-ما يؤكده المنطق الوضعي الغربي،ف (دعوى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ) هي،إذن، دعوى زائفة.و مع ذلك،لا نريد أن نتبنى مبالغة هذا المنطق بخصوص مفهوم الزيف،كل ما هناك هو أن الاشتغال بهذه الدعوى المفتقرة إلى مرجع،يتعارض،سواء مع هذا المنطق أو مع التطورات التي عرفها في إطار ما سمي بالمنطق الطبيعي في صورته التي تجمع بين البعد الذاتي للقضايا و بعدها الدلالي أو،قل، الموضوعي ؛أي الصورة التي بحسبها-يمثل معنى القضية مزيجا متكاملا من بعديها الذاتي و الموضوعي. و هكذا،ففي غياب مرجع للتحقق الواقعي من الدعوى تصبح كل الأحكام الذاتية ممكنة،و يصبح الخلاف حول الشرعية أو عدمها خلافا ذاتيا الغلبة فيه لصاحب القضية الأقوى،أي لذاك الذي يكون انخراطه الذاتي في القضية أكثر توغلا.أيهما أقوى،إذن،الشك في القضية المثبتة أم الشك في القضية المنفية؟-إن الشك في القضية المثبتة،كما لاحظنا في مثال سابق،عادة ما يضعف العمل و يدعو إلى التوقف، و هذا يعني أن فرنسا،التي تمسكت بعدم شرعية الحرب على العراق،لم تفعل ذلك لأنها تملك الدليل على أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل،بل لأنها لا تمتلك الدليل الذي يخول لها الدخول في العمل(=الحرب)،أي أن الأمر لا يتعلق بالحرص على الآخر/العراق،بقدر ما يتعلق بالانسجام مع الذات و بمقتضيات دخولها في العمل،بحيث لو تصورنا وجود دليل على أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل فهل كانت فرنسا لتتورع عن الدخول فيه؟من المؤكد أننا لا نستطيع أن ننكر الآثار الإيجابية للتوقف الفرنسي،لكن،هل حال ذلك دون وقوع الحرب،مثلا ؟ -في تقديري أن هذا التوقف مثل،بقصد أو بدون قصد،مشاركة استراتيجية في الحرب،كان من نتائجها توليد شعور في العالم العربي و الإسلامي بوجود شريك يناصبه-وجدانيا على الأقل-الإحساس بعدم أخلاقيتها،و في ذلك من تحجيم لردود الفعل اتجاهها ما هيأ المناخ الملائم لشنها.و هذا التأويل يعني أن وضعية التوقف في حالة الشك في القضية المثبتة لا يمثل سوى درجة حجاجية في سُلَّمِيَّة (دعوى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل )،تسلمك إلى درجة أعلى منها في الذاتية و هي درجة الشك في القضية المنفية؛ و هذه الدرجة أقوى لأن الشك في العدم مدعاة للعمل و محفز على الإثبات.و هكذا فمجرد تمسك أمريكا بالشك في القضية المنفية (أشك في عدم وجود أسلحة دمار شامل بالعراق )،يعني تمسكها بشرعية ذاتية مطلقة للدخول في العمل،و هي ذاتية مطلقة لأن العمل بمقتضاها لا يفترض التقيد بدليل يقضي بالوجود الفعلي لأسلحة دمار شامل بالعراق؛إذ الفرض هو أن الدليل،في حالة الشك في القضية المنفية، تابع للعمل و ناتج عنه،و ليس العكس.و بهذا الشكل لا شيء يحول دون أن تنتهي صيغة الشك في القضية المنفية إلى استغراق جنوني في نزعة ذاتية متطرفة و إقصائية ليست غايتها من العمل سوى الرغبة في إيجاد شيء غير موجود إلا في ذهن صاحب القضية؛فعندما تدخل الذات في العمل،و هي خالية من اليقين،فإن ما هو ماثل في الذهن يصبح هو الموضوع و ليس الواقع الفعلي،وواضح أن ذاتا بهذه الطبيعة مهيأة،مسبقا،لإقصاء أية ذوات أخرى،مهما كانت هذه الذوات مشتركة معها في الجنس و الإنسانية.و هذا بالذات ما يمثله النموذج الأمريكي في تعامله مع صيغة (الشك في عدم وجود أسلحة دمار شامل بالعراق).فلا غرابة،إذن،ألا تجد الآلة العسكرية الأمريكية غضاضة في هدم العمران و إزهاق الأرواح و تقتيل الأطفال و الشيوخ و النساء و الإتيان على الأخضر و اليابس،فذلك من متطلبات رغبة الذات في تحقيق صدق ما انساقت إليه من وهم غير موجود إلا في الذهنية الأمريكية،كما علينا ألا نستغرب و قد تحولت الحرب إلى سادية جنسية ب أبو غريب؛فذلك جزء من الاستغراق الجنوني في ذات مطلقة من كل القيود التي تجعلها في مصاف الذات الإنسانية السوية. و الحق أن صيغة الشك في وجود أسلحة دمار شامل بالعراق لا تمثل سوى صيغة جزئية للذاتية الأمريكية المطلقة و الإقصائية،أما الصيغة الكلية فقد تكونت قبل الحرب؛فكل المتتبعين للشأن الأمريكي-العراقي يعلمون أن الهجوم على برج التجارة العالمي،بنيويورك،و الهجوم على البنتكون مثل نقطة تحول راديكالية في السياسة الخارجية الأمريكية اتجاه العالم الإسلامي،جمعت في سلة واحدة،كل الأشكال التي تعتبرها أمريكا إرهابا،و التي تتعارض مع مصالحها العليا.و من هذا المنطلق كان من السهل على الخطاب العسكري-السياسي إدماج فكرة محاربة الإرهاب لتعزيز دعوى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؛فهذه الأسلحة ترهب مصالح أمريكا الاقتصادية،و ترجع بالضرر على أسلوب عيشها،و تتعارض مع ثوابتها،و تحول دون تحقيق غايتها من توحيد العالم تحت مظلتها،و تعميم طريقتها في التفكير و التدبير و التسيير و التسييس و الاقتصاد و الاجتماع و التربية و التعليم.و بالجملة،كان على الحرب أن تقيم داخل الخطاب السياسي-العسكري الأمريكي قبل أن تقوم على أرض الواقع،و من ثم،فإن مرجعية الدعوى-بالنسبة لهذا الخطاب-لا تتمثل في التحقق مما إذا كان العراق يمتلك أسلحة دمار شامل أم لا،لأن المرجع في هذه الدعوى متمثل في المضمون الشامل للخطاب المصلحي الأمريكي. من المؤكد أن كل شعب له الحق في الدفاع عن مصالحه و الحفاظ عليها،و الأمة التي تعيش بدون خطاب مصلحي أمة بدون غاية،ولا تعرف رسالتها في الوجود؛فالخطاب المصلحي هو الخطاب الذي يحفظ لكل أمة هويتها،و من هناك يستمد طبيعته التواضعية،و من ثم،الملزمة،و هو-كأي خطاب-الوسيلة التي تعلن به أية أمة عن ذاتها.فأمريكا،إذن،إنما أعلنت بخطابها المصلحي عن ذاتها و عن إكراهاتها التواضعية في صورتها الشمولية.لكن،هل ينبغي-لكي نعبر عن ذواتنا و من ثم عن وجودنا- أن يموت الآخرون؟هل يترتب عن الوثوق بخطاب الذات و الاعتزاز به إقصاء الآخر ؟ثم كيف تريد أمريكا أن ترسي أسس التواصل و التحاور و التعايش و التعاون بين الأمم و الشعوب و هي منشغلة عنهم بالاستغراق في ذاتها؟ إن حضارة تقوم على خطاب الرصاص و القنابل حضارة تحول بين نفسها و سماع الآخرين ،و حيث لا سماع فلا تحاور.و حيثما كان الخطاب المصلحي خطابا غير قادر على إحلال الآخر في نسقه-دون أن يهدم بقوة السلاح النموذج الذي يختاره هذا الآخر لحياته،ودون أن يخل بالاختلاف شرطا للتواصل،و دون أن يعترف بحق الآخر في الانتماء إلى ذاته و منظومته الحضارية و مرجعيته المصلحية الخاصة-كان هذا الخطاب،بكل المقاييس،خطابا إقصائيا. عرفة بلقات