ورب قائل يقول: كيف أمكن للمقاومة أن تنجز ذلك وهي التي لا تملك ميزان قوى مادي يسعفها بتحقيق ذلك؟ إن مقولة القوة العسكرية المادية لا تفسر كل شيء في الصراعات المسلحة، ذلك أن شعبا يملك قضية عادلة ويحقق التعبئة الضرورية من أجل الدفاع عنها وتملأ عنه حياته، يملك أن ينجز هدف الانتصار على محتل ينفذ أمرا عسكريا يوميا! هكذا يقول تاريخ الصراعات الكبرى: تكسب الشعوب معركتها حين تؤمن بها وتنغرس في وجدانها وذاكرة أبنائها لتتدفق قيما ومعاني وحركات وإرادات، أي بعد أن تحسن موقعها في ميزان الإرادات، فتنتصر إرادة المقاومة على إرادة الاحتلال، ولعل هذا هو الأمر المغيب في التفكير الاستراتيجي المعاصر المتبني لمقولة ميزان القوى، هو مفهوم ميزان الإرادات كمفهوم غير قابل للقياس، يلفت الانتباه إلى عوامل أخرى غير مادية في تفسير ظاهرة انتصار القوى الضعيفة في ميزان الصراع، وهي عوامل قد لا تكون دائما مادية، حتى وإن كانت نتائجها مادية بالضرورة، لكنه يكشف عند التنزيل المادي له عن قابلية مذهلة وعجيبة لتغيير معطيات الواقع وميزان القوة ومنطق إدارة المعركة. وإن كان من درس تقدمه المقاومة الفلسطينية وقبلها اللبنانية اليوم للفكر الاستراتيجي فهو أن الاحتفال بعوامل القوة المادية لتفسير القوة المادية ليس دائما مدخلا ملائما لفهم ظواهر مثيرة من نوع نجاح بضعة آلاف من المقاتلين المسلحين بأكثر الأسلحة تأخرا وبدائية في تمريغ هيبة واحد من أكبر جيوش العالم عدة وعددا، وهذا ما أكدته بعمق تحليلات الأستاذ عبد الإله بلقزيز حول حرب الإرادات. إن الصراع مع الكيان الصهيوني يرتكز بشكل أساسي على منطق العدالة وقوة الإرادة وهو ما تمتلكه المقاومة وتستمد منه الإبداع وتطوير وسائلها باستمرار لمواجهة الاحتلال والعدوان وهنا يبرز ضعف الموقف الإسرائيلي فمن لديه القدرة على الصمود والثبات، وليس العدة وأدوات التدمير هو الذي ينتصر ويحقق النجاحات. وهذا ما عبر عنه السفير الصهيوني في باريس حين قال:إذا كان هناك ثلاثون ألف صاروخ فليس المطلوب تدميرها، بل تدمير إرادة إطلاقها. لقد أظهر انتصار تموز 2006 صوابية منطق المقاومة في مقابل عقم منطق الاستسلام وأوهام التعايش والمفاوضات، وحققت نصرا استراتيجيا وتاريخيا، مؤكدة إمكانية الانتصار إذا توفرت الإرادة وإذا امتزج العقل مع الإيمان بالقضية، أي ما أنجزه العقل من تدريب عال وتصنيع ذاتي وما حققه الإيمان من استبسال في القتال حتى الشهادة. ومن ثم، على الأمة بعد انتصار المقاومة في لبنان 2006 أن تعيد برمجة حساباتها على أسس أخرى، فقد ولى زمن الهزائم، وآن لنا أن نتنفس هواء الحرية والكرامة والانتصار. وقد بَيَّن حزب الله أنه لا يوجد فراغ في جنوب لبنان، وإنما يوجد جسد وروح ويوجد إرادة وعزيمة ورغبة في الاستشهاد في سبيل الله والوطن؛ ولذا بدلاً من التوسعية الصهيونية، ها نحن نرى الانكماشية الصهيونية، والانسحاب المذل، كما ظل يشرح ذلك المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله. فحزب الله ليس مجرد فريق سياسي وليس ثلة من الميليشيات المسلحة ولا فصيل مذهبي بل هو في جوهره حركة اجتماعية وتيار نضالي ونموذج ديمقراطي جماهيري.. هو دولة الناس.. ومن هنا أهمية فهم رؤيته الفلسفية، حسب الأستاذة هبة رؤوف عزت. إننا بصدد تجربة جديدة ومكثفة عز مثيلها في التاريخ الحديث كله، ألغت من حسابها الخوف من قوة الكيان الصهيوني العسكرية، وتدخل في حسابات العدو الخوف من دروس انتصار المقاومة وما قد يأتي به من تيارات الوعي والثقة الذاتية والتماسك بوجه حرب ضارية تقودها أمريكا وإسرائيل والصهيونية العالمية، فكان صمود المقاومة في وجهها هو الانتصار بعينه مع حفظ الحقوق الوطنية وعدم التفريط فيها.