يحتاج التطوير المؤسساتي إلى الحفاظ على مستوى معين من الدينامية التنظيمية والفكرية ذات العلاقة بتعدد الرؤى والخلفيات الاجتماعية ووجهات النظر لدى المشاركين في صناعة القرار. ويتناقض هذا التوجه مع تركيز السلطة بيد القيادة التنفيذية وقيامها بكل أمور التدبير والتسيير وإضعاف الثقل التنظيمي للمؤسسات الأخرى خاصة مؤسسة الشورى. البعد التنظيمي المؤسساتي حاضر بقوة في تفعيل السلوك الشوري وتوسيع مداه من خلال الاستقلال النسبي للفاعلين في التنظيم والبحث عن صيغ مبتكرة لتوزيع الصلاحيات وإقامة تقابلات بين سلطة الرقابة والتشريع وسلطة التدبير، وتؤدي هذه التدابير إلى ضبط التوازن في معادلة الإنجاز والتطوير، والنظر والعمل، والتجديد والاستقرار. يتطلب تطوير نظام الشورى فهم جدلية الثقافي والمؤسساتي أي ترسيخ القيم التي تستدعيها الممارسة الشورية السليمة من جهة وصياغة القوانين والمساطرالتي تحدد القواعد التي تحكم الممارسة الشورية. كما يتطلب ذلك التطوير الأخذ بعين الاعتبار المعوقات التي تربك حركته والمحددات المتحكمة فيه. التطور والمحددات يسير التطور المؤسساتي للشورى بشكل مواز مع التطور المؤسساتي للتنظيم. فصيغ المشاركة في اتخاذ القرار تناسب أسلوب ونظام اتخاذ القرار. ويحقق التنظيم تطورا سليما على قدر حفاظه على هذا التناسب. وكلما كبر التنظيم إلا وتعقد نظام اتخاذ القرار، وتوسعت دائرة المشاركين فيه، وتنوعت اختصاصاتهم، وازداد حجم المعلومات المحتاج إليها، وازداد عمق مقاربة القضايا المراد معالجتها. كل هذه العوامل تبرز أهمية رصد هذا التفاعل الذي يعتمل في سيرورة التطور المؤسساتي للتنظيم بغية إدراك الكيفية التي يؤثر بها على تطور الشورى. في مرحلة أولى تكون القيادة التنفيذية هي نقطة الارتكاز في التطور المؤسساتي للتنظيم. وتتطور القيادة التنفيذية من زاوية مؤسساتية بتدرج عبر مراحل عديدة. تتسم البداية بأسلوب القيادة الفردية، حيث يهمن فرد بعينه على تدبير شؤون التنظيم وتدبير علاقاته بمحيطه. ثم يتم الانتقال إلى أسلوب القيادة الجماعية التي يتم فيها تقاسم الأدوار بين أعضاء الهيئة القيادية. حينئذ يتم تحديد مجال تدخل كل منهم مع احتفاظ القائد بدور الإشراف و الاعتراض والمبادرة أثناء تعذر اجتماع الهيئة. القيادة الجماعية عند التوحيد والإصلاح تكشف تجربة حركة التوحيد و الاصلاح عن رسوخ أسلوب القيادة الجماعية في إدارة وتدبير شؤون التنظيم مما أكسب الحركة مرونة كبيرة في تغيير رؤسائها بسلاسة. وتتجلى هذه المرونة في الطريقة التي تمت بها معالجة استقالة الدكتور أحمد الريسوني من رئاسة الحركة في سياق الحملة التي استهدفته واستهدفت الحركة. وكان من شأن هذه المشكلة أن تحدث ارتباكا حقيقيا لو أن القيادة كانت فردية ومرتبطة بشخص الرئيس. لكن أسلوب القيادة الجماعية أكسب الحركة مناعة ومرونة؛ إذ بإمكان الدكتور أحمد الريسوني أو غيره أن يباشر عمله سواء من موقع الرئيس أو من موقع العضو في المكتب التنفيذي. ومساهمة كل فرد إنما تعود إلى قدرته على إفادة الفريق بآرائه وتوجيهاته ومباشرته للأعمال الأخرى المرتبطة بالتأطير والتواصل... ويكشف أسلوب القيادة الجماعية على بعد معرفي يتمثل في قدرة أفراد ذوي تخصصات مختلفة ونماذج معرفية متباينة على التواصل والتفاهم. وهو أمر ليس بالهين وإنما يكتسب بالخبرة والتفاعل الذي يمتد فترة طويلة. ومما ييسر هذه القدرة هو التوصل إلى طريقة متفق عليها في بلورة القرارات واتخاذها دون أن يؤدي ذلك إلى مشاكل على مستوى تحديد الصلاحيات. كما أن النظام الأخلاقي والقيمي، المبني على المطاوعة والقبول بالرأي الذي تقول به الأغلبية وتقديم المصلحة العامة وعدم التشبث بالرأي، يدعم هو الأخر هذا التوجه. لكن السعي إلى التفاهم قد يتحول إلى عائق أمام التطور إذا ما كان يعكس رغبة في تحقيق الانسجام على حساب الأداء. ذلك الانسجام الذي يحول دون تعدد الأراء ولا يسمح للاختلاف بالتبلور. توسع دائرة صناعة القرار أما المرحلة الثالثة فهي أكثر تقدما حيث يتم توسيع دائرة المساهمين في صناعة القرار لتشمل اللجن المركزية التي يعهد إليها بإعداد الدراسات والبحوث وتوفير المعلومات واقتراح البدائل الممكنة. وتضم هذه اللجن أفرادا يتم انتقاؤهم إما لتجربتهم التنظيمية أو لخبرته الفنية والمهنية باعتبارهم تكنوقراط. وتشكيل هذه اللجن ليس بالأمر الهين لأنه يعكس وجود القناعة بجدوائية ما تقوم به، أي أن التنظيم يكون على استعداد لتقبل نزعة العقلنة والتحليل التي تمثلها هذه الفئة. و يستشف من انتخاب المهندس محمد الحمداوي رئيسا للحركة تجل عن الموقع المتقدم الذي تبوأته هذه الفئة في السنوات الأخيرة. بل إن ذلك يمكن أن يقرأ على أساس أنه تحول كبير على مستوى النماذج المعرفية الفاعلة في الحركة والخريطة الذهنية للحركة ككل. فقد أدى العمل بالتخطيط إلى الزيادة في الأعمال ذات الطبيعة التنظيمية مما جعل من التقعيد البيروقراطي يحظى بأهمية كبرى. غير أن طريقة تنظيم وظائف الدعم شابها بعض القصور المرتبط بغياب أو عدم فاعلية الوظائف المرتبطة بالعمل الثقافي والعلمي. وقد يسمح ذلك بالقول بأن نموذج المثقف لم يجد إلى حد الآن المكان المناسب لها في رقعة التنظيم وأن نموذج المناضل السياسي سيقل دوره حيث استقطبه العمل السياسي أو النقابي. وأهمية التقعيد البيروقراطي لم يكن مسلما بها منذ البداية وإنما تبلورت بشكل تدريجي دون أن تنتفي نهائيا المواقف المشككة فيها والتي تجد مصدرها في بعض القيم الثقافية السائدة وفي الأخطاء التي تواكب عملية التنزيل. فاستعارة التقنيات التنظيمية تقع في الشكلانية الناتجة عن ضعف استيعاب المفاهيم المرتبطة بها وانتزاعها من سياقها. كما أن تشكيل هذه اللجن يقود إلى التمييز في عمل القيادة بين بعد الريادة والاستشراف الذي يستند إلى الخبرة والكفاءة الفكرية وبعد حل المشكلات الأقرب إلى ميدان التكنوقراط. من الأمور المهمة في هذه المرحلة هو مستوى نضج الرقابة الداخلية (interne contrôle de système) المرتبط بمستوى كفاءة اللجن المركزية خاصة تلك المكلفة بالصورنة وتحليل العمليات وصياغة نظم وطرق العمل. ويتجلى مستوى النضج في دقة التخطيط من حيث الإعداد والتنزيل. المراقبة الداخلية إن عدم اكتمال جهاز المراقبة الداخلية يؤشر إلى وجود ضعف في اللامركزية الأفقية إما لغياب صلاحيات دقيقة أو لخلل في العلاقة بين هذه اللجن والقيادة التنفيذية. ويعكس هذا الأمر الوعي بأن البنية لا تخلق حتما الوظيفة. فقد يتم استحداث هيئات ولجنا داعمة دون أن يؤدي ذلك إلى عقلنة حقيقية لعمل القيادة التنفيذية. فقد لا تتوفر هذه اللجن على صلاحيات واضحة وبرامج عمل تستند إلى فهم شامل لخريطة العمل التنفيذي. وقد يحصل أن عملها قائم على تقديرات شخصية ظرفية. كما أن طريقة تشكيلها وحلها تتم بطريقة فيها بعض التساهل. فحلها واستبدالها ممكن بين لحظة وأخرى. كما يمكن تفريغها من محتواها بتشكيل لجن مؤقتة حسب الحاجة حتى وإن اشتغلت على مواضيع هي في الأصل جزء من مهامها. وقد تكون هناك أسباب معقولة وراء مثل هذه القرارات مثل ضعف بعض اللجن وعدم فاعليتها. لكنها إذا تكررت وأصبحت منهجا معتمدا فإن ذلك يؤشر إلى خلل في البناء المؤسساتي يحول دون تحقيق التراكم والتعلم التنظيمي والاستفادة من أكبر قدر من الكفاءات. لمعالجة هذه المشكلات، يمكن لمكتب مجلس الشورى أن يخصص جزءا من عمله لمراقبة عمل اللجن المركزية. وأن يقوم بمدارسة تقاريرها بشكل دوري (ثلاثة أشهر) ويضع بعض الآليات المتعلقة بمتابعة عملها. من ذلك، دعوة مسؤولي هذه اللجن بالتناوب لعرض مشاريعهم أمام مجلس الشورى بغرض الاطلاع والمساءلة فقط (احترام مبدأ عدم تدخل مجلس الشورى في أعمال الهيئات التابعة للقيادة التنفيذية). إشكالات التكنوقراطية يعبر دمج عمل التكنوقراط في نظام القيادة عن نضج يجعل هذا النظام أقدر على التعاطي مع مختلف القضايا سواء الداخلية أو الخارجية بكفاءة ونجاعة. لكن التطور لا يقف عند هذا الحد؛ إذ تلوح في الأفق بعض المشكلات المرتبطة خاصة بالجمود الذي يتولد تلقائيا إذا ما حصل استقرار في بنية القيادة مدة طويلة. وهذا الجمود يؤدي إلى ما يسمى في علم الإدارة بتجذر القيادة (enracinement) . لذا يتم اتخاذ مجموعة من التدابير من قبيل تحديد عدد الولايات المسموح بها وفرض نسبة تجدد معينة في الهيئات القيادية ... وهذه الإجراءات والتدابير ترمي إلى الحيلولة دون السقوط في الشخصانية والشيخوخة التنظيمية. وفي نفس السياق نجد الموقف الذي يعمل على مقاربة هذا الموضوع من زاوية الفصل بين القيادة التنفيذية ومؤسسة الشورى وتمكين هذه الأخيرة من الإمكانات والموارد التي تجعلها قادرة على أن تضطلع بدور مقابل لدور السلطة التنفيذية. يشكل الفصل بين سلطة التدبير وسلطة الرقابة مرحلة متقدمة من التطور المؤسساتي للتنظيم. فالهيئة التنفيذية تتجمع بين أيدها، وذلك أمر طبيعي، الإمكانيات التنظيمية والموارد المادية والبشرية لقيادة التنظيم وفق تصوراتها. ولا يمكن من الناحية المنطقية المطالبة بعكس ذلك لأن ذلك يعني تحميلها مسؤولية القيادة دون تمكينها من أدواتها والوسائل الضرورية لتحقيقها. ولو حصل ذلك فإن صفة القيادة تصبح تلقائيا منتفية عنها. تكمن المشكلة فقط في وجود خطر الجمود التنظيمي والفكري الذي يحصل إذا ما غابت المساءلة و الرقابة التصحيحية... أي إذا ما أصبحت تلك الوسائل مرتبط بشخص ما أو أشخاص محددين و ليس بوضعية اعتبارية هي وضعية القيادة. وهذا ما يحصل في كثير من الأحزاب حيث يتم تسجيل كل ممتلكات الحزب باسم القائد حتى يتسنى له التجذر ويقع التطابق بين القيادة و شخصه. أما في تجربة الحركة الإسلامية فتقود هيمنة البعد التاريخي على الأبعاد الأخرى للشرعية إلى وضع مماثل. وإذ ذاك يتم توظيف جزء من تلك الموارد في تقريب الأشياع و إبعاد المخالفين. والموارد هنا يجب أن تفهم بشكل أوسع وأشمل. فهي لا تنحصر فقط في الإمكانيات المادية ولكن أيضا في الموارد الرمزية. ويمكن القول أن هذا إن حصل فإنه يؤدي لأن يصبح التنظيم ملكا للقيادة بكل ما توحي به كلمة ملكية من حق التصرف في المملوك على حسب اعتبارات المالك لا غير؛ بينما حق التصرف في الموارد التنظيمية هو حق مشروط بالنهوض بأعباء الرسالة التي يحددها التنظيم لنفسه ويجعل من القيادة مكلفة بتنزيلها. وهذا الشرط يحتاج من أجل التحقق من احترامه إلى جهة أخرى تراقب تصرفات القيادة وتضبطها. وتقتضي هذه المهمة أن تكون لهذه الجهة كذلك الموارد اللازمة والصلاحيات والسلطات التي تجعل قيامها بها ممكنا. مصطفى أكوتي أستاذ مبرز في الاقتصاد والتدبير