تصل المفارقة أحيانا في الحراك المجتمعي لمقاومة التطبيع وثقافة الانحراف إلى حد الذهول بين الحالة المغربية وحالة بلدان أخرى عربية. ففي مصر مثلا، سجل الشهران: الماضي والجاري حراكين مجتمعيين قويين لمقاومة التطبيع في مجالين اثنين: علمي وفني. فعلى المستوى العلمي: واجه أساتذة كلية الطب محاولة اختراق إسرائيلي لمؤتمر طبي لتشخيص بعض الأمراض الوراثية بالدم تنظمه مؤسسة +نوفو نورديسك؛ الدانماركية فى القاهرة في الرابع وعشرين من الشهر الجاري، ودعا الأساتذة من مختلف كليات الطب إلى مقاطعة المؤتمر بسبب وجود محاضرين إسرائيليين في جلسات المؤتمر. وعلى المستوى الفني، سحب ثمانية مخرجين مصريين أفلامهم من المهرجان السينمائي لقاء الصورة الذي يقام بالقاهرة، وأعلنوا في بيان رفضهم تدخل الخارجية الفرنسية للضغط على إدارة المهرجان المركز الثقافي الفرنسي لإجبارها على عرض فيلم شبه طبيعي للمخرجة الإسرائيلية كارين بن رافاييل، معتبرين المهرجان خاصا بالأفلام المصرية المستقلة، وطالبوا نقابة السينمائيين والمركز القومي للسينما بالإعلان فورا عن إقامة مهرجان خاص للسينمائيين المصريين الشباب في نفس التوقيت الذي يعقد فيه مهرجان المركز الفرنسي لتشجيع السينما المستقلة والتأكيد على استقلالية السينمائى المصري عن أية ضغوط تريد أي جهات فرضها عليه. المفارقة في الحالة المغربية، أننا نجد بعض المواقف المحسوبة على المجتمع المدني تسير في الاتجاه المعاكس تماما لهذا الموقف الممانع. فقد سبق لمعهد أماديوس أن استقبل شخصيات إسرائيلية من بينهم مسؤولون صهاينة ثبت تورطهم في جرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. والغريب أن رئيس هذا المعهد صرح لإحدى الصحف الوطنية أن جزءا من مهمة معهده أن يستقبل الشخصيات التي لا تستطيع الدولة أن تستقبلها، أي أن من مهامه أن يقوم برفع الحرج السياسي الذي يمكن أن تجده الدولة في استقبال مثل تلك الشخصيات. وإلى جانب التطبيع، يبرز الحراك المجتمعي في بعض البلدان العربية لمقاومة ثقافة الانحراف، وتحريك الفعالية المجتمعية لتحصين المجتمع من الاختراق الثقافي. ففي حالة مصر دائما، تحرك المجتمع، على خلفية التصريحات التي أدلى بها المغني إلتون جون للصحافة، والتي أساء فيها للنبي عيسى عليه السلام، واتهمه بالشذوذ الجنسي، تحركت قوى المجتمع المصري للدعوة إلى رفض استقبال هذا المغني الغربي، وقد أثمرت الهبة المجتمعية استجابة نقابة الموسيقيين لنبضا الشارع، وأعلنت رفضها استقبال هذا المغني. هناك اليوم ما يدعو إلى التساؤل عن دور المجتمع المدني في تعزيز ثقافة المقاومة ضد التطبيع، وفي تأسيس ثقافة الممانعة للانحراف الثقافي والأخلاقي الذي يسوق أحيانا في ثوب فني. وإذا كانت مصر تمثل نموذجا للتقدم الفني والسينمائي على وجه الخصوص، فإن الفنانين والمخرجين، بل إن نقابة السينمائيين والمعهد القومي للسينما، بفضل الحراك المجتمعي، أصدروا بيانات نددوا فيها بالتطبيع السينمائي والفني، واتخذوا مواقف جريئة في مقاطعة التطبيع. وتبرز أكثر حركية المجتمع في رفض أشكال من الاختراق الثقافي والفني، والتعبير بكل قوة عن رفض كل صور الانحراف الأخلاقي التي تتخذ أردية فنية أو ثقافية. بكلمة، في الوقت الذي تنخرط فيه دولة كمصر في مسلسل التطبيع، وتضعف إردتها السياسية في مواجهة الضغوط إليها، يتولى الحراك المجتمعي دور الممانعة والمقاومة. وفي الوقت الذي تحاول السلطات المغربية جهدها ألا تتورط في مسار التطبيع بشكل رسمي، وفي الوقت الذي تعلن فيه الدولة المغربية عن سياستها الصارمة لتحصين الأمن الأخلاقي والروحي للمغاربة، تتنادى بعض مكونات المجتمع المدني إلى المبادرة من جهة لرفع الحرج السياسي عن الدولة في موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن جهة بتشجيع ألوان من الانحراف الأخلاقي باسم الفن وحرية الإبداع. مفارقة كبيرة، تستدعي طرح سؤال الفاعلية المجتمعية، ودور المجتمع المدني في تحصين القيم ومقاومة التطبيع، لاسيما في المجال الفني والثقافي.