قال الشيخ رفيقي عبد الوهاب، أبو حفص المعتقل بالسجن المحلي بوركايز بفاس على خلفية ما يعرف ملف بالسلفية الجهادية : إن المراجعات ضرورة شرعية، وواجب عقلي، وسمو أخلاقي، وبناء إصلاحي، ومشروع نهضوي، مشيرا إلى أنه مشروع علمي فكري إصلاحي، وهو أساس دعوته ومنهجه داخل السجن وخارجه. وعبر أبو حفص عن موقفه من الثوابت الثلاث للأمة، مشيرا إلى نبذه للعنف والعمليات المسلحة في بلد المسلمين وعدم مشروعيتها في بلاد الكفار أيضا لكونها تستهدف غير المحاربين. وأكد أبو حفص في حوار أجرته معه التجديد إنه لا سبيل لمن أراد تصحيح مساره، وإصلاح مسيرته، إلا بالمراجعة، ومن حرم لذتها فقد حرم خيرا كثيرا، بل هو محجوب بظلمات الغرور والإعجاب بالنفس والاعتداد بحظوظها، وأشار رفيقي إن سنوات السجن الطويلة، هيأت لهم ، على شدتها، فرصة الاطلاع الواسع، وقراءة المطولات والأصول، وما صاحب ذلك من مناقشات علمية مع المشايخ وطلبة العلم، وسمح له ذلك بإعادة النظر والمراجعة في كل مسائل العلم وفروعه، من مسائل العقائد التي اختلفت فيها الأمة. وحدد أبو حفص معالم مبادرة الحوار والمصالحة التي يعتزم هو ومن معه إطلاقها لإعادة النظر في ملف المعتقلين على خلفية العمليات الإرهابية التي تعرض لها المغرب. وتساءل أبو حفص، عن الجمود الذي يسيطرعلى هذا الملف، مشيرا إلى بعض الجهات التي تحاول إقباره، بسبب تقصيركثير من الفعاليات العلمية والسياسية والفكرية والثقافية في طرح هذا الملف وتحريكه، مع معرفتهم التامة بوجود الأبرياء وووجود من يستحق العودة لأهله وأبنائه... منذ فترة، تحولت قضية مراجعات الجماعة المقاتلة الليبية إلى محور جدل داخل السجون المغربية، بعد تثمينكم للمبادرة، وصدور بيان موقع باسم أسرى التوحيد والجهاد في السجون المغربية ونشره من قبل مركز المقريزي للدراسات التاريخية في لندن، الذي عارض الفكرة وتبرأ منها، هل يمكنكم توضيح فكرتكم؟ ما هي الدلالات الفكرية لهذه المراجعات؟ وما هو تأثيرها على تنظيم القاعدة بالمغرب العربي ؟ أنا غير معني من قريب أو بعيد بهذا الجدل، ولا بتضييع الأوقات في متابعة البيانات والبيانات المضادة، تعليقي على المراجعات الليبية كان مختصرا وعرضيا ولا يحتمل كل هذه الضجة، وإنما بعض الذين في نفوسهم مرض من النكرات والمجاهيل، حاولوا الصيد في الماء العكر، فلا داعي للاشتغال به، لأني لا أروج لا لهذه المراجعات ولا لغيرها، ولست بحاجة إلى المراجعات الليبية ولا لسيد إمام لأضع أفكاري وتصوراتي، والتي قد تتفق أو تختلف مع هذه التيارات ومع غيرها من كل التيارات الإسلامية، ولكل اختياراته وترجيحاته، لكن المتعصبة والغلاة يريدون دائما حشرك في زاوية ضيقة، وإخراجك من سعة الإسلام ورحابته، ويسره وسماحته، إلى ضيق القنوات الحزبية، والتكتلات العصبية، وقد حماني الله تعالى من كل ذلك، فلهذا لا ألتفت إلى المتعصبة والحزبيين، ولا آبه بما تنفثه صدورهم، وما تخطه أقلامهم. أما تثميني للمراجعات الليبية فلم يكن بعد اطلاع تام وشامل على مضامينها، فهذا لم يتأت لي إلى الآن، وإنما اطلعت على بعض المقالات فقط، لكن الذي ثمنته حقيقة هو هذه الحركة الفاعلة، وهذا النشاط الدؤوب في مختلف الدول التي يقبع الإسلاميون في سجونها، من أجل حلحلة هذه الملفات، والإفراج عن المعتقلين الذين عوقبوا لقيامهم بأعمال تجرمها قوانين دولهم، فكيف بمن لم يرتكب شيئا أصلا، أو أن بعض آرائه لم ترق بعض الجهات، فهذا أولى بذلك وأحرى، وأنا ثمنت الدور الذي يقوم به العلماء والمفكرون والمثقفون في هذه البلدان، والذين لا يدخرون جهدا في التحريك والوساطة ومحاولات رأب الصدع وتجاوز الماضي، وثمنت أيضا المعالم الكبرى لهذا الإصدار الليبي، وخاصة نبذ الخروج والعمليات في بلاد المسلمين، والتحذير من الغلو والشطط في تكفير أهل القبلة، وهي معالم أساسية في دعوتي ومنهجي كما سيأتي بيانه إن شاء الله، أما التفاصيل والجزئيات فلا يمكن لي الحكم عليها إلا بعد الاطلاع التام. كما أنني لاحظت أن هذه المراجعات قد استفادت من المراجعات السابقة، ولم تقع فيما وقعت فيه من أخطاء، وذلك بسلوك منهج الوسطية، فلا يمكن مثلا استساغة التحول الذي عرفته الجماعة الإسلامية المصرية، مع احترامي للجميع، فمن جماعة حسبة ثم جماعة مقاتلة، ومن عمليات اغتيال وسفك للدماء ذهبت بأرواح الأطفال والنساء، من هذا المستوى إلى الدفاع عن كامب ديفيد وعن أنور السادات، كيف يمكن استساغة مثل هذه المراجعة؟ أو مثل مراجعات سيد إمام، والتي بدل أن تنصب على أخطاء قد وقع فيها الرجل حقيقة، وكانت مفاسدها عظيمة في كثير من بلاد المسلمين، بدل ذلك أشتغل بالسب والشتم وتصفية الحسابات مع أصدقائه القدامى، فلذلك لم يكن لها قبول واسع، أما المراجعات الليبية فحسب ما يظهر لي من الانطباع الأولي فقط أنها تجنبت هذه المزالق وكانت أكثر رصانة وتعقلا. أما تأثير هذه المراجعات على تنظيم القاعدة في المغرب العربي فالذي أرى أن هذه المراجعات قد يكون لها تأثير على الصعيد الميداني، لكن أستبعد تأثيرها على المستوى الفكري والمنهجي، لسبب واحد واضح ومعروف، وهوأن هذه التنظيمات تنظر إلى كل ما يصدر من السجون بعين الريبة والشك، وترى أنها رأت النور تحت الإكراه المادي أو النفسي، ولذلك فهي تعتبره إما تقية وإما تخاذلا وتراجعا ونكوصا، وهذا ليس بصحيح مطلقا، فقد أصدق ذلك في بعض الحالات، حين يأتي أمثال ناصر الفهد والخضير فك الله أسرهم على شاشة التلفاز لينقضوا غالب ما كانوا عليه سابقا، إلى حد إنكار وجود طائفة مقاومة للاحتلال بالعراق، فهذا ما لا أستسيغه، خاصة مع صدور ذلك دون تأصيل ولا تدليل، لكن حين تكون هذه المراجعات مؤصلة موثقة، أو مؤكدة المرة تلو الأخرى، فهذا دليل على صدورها عن قناعة تامة وإيمان راسخ، فحري بالمنتسبين إلى التيار السلفي الجهادي أن يقرؤوا هذه المراجعات وغيرها بنية الاستفادة والاعتبار، وليس الحكم عليها غيابيا، فأنا أجزم أن الذين انتقدوها لم يقرأوا منها حرفا واحدا، وهاجموها شهوة ولأهواء نفسية، مع أنها صدرت عن شيخين كريمين، طالما عظمهما أهل هذا التيار وأتباعه، أعني أبا عبد الله الصادق وأبا المنذر الساعدي، واللذين عودا أتباعهما على الجهر بالعقائد مهما كانت النتائج والمفاسد. مباشرة بعد صدور البيان المناهض للمراجعات بالمغرب، صدر بيان آخر من السجون المغربية يؤكد أن المبادرة التي يتبنونها ليس فيها أي تأصيل أو مباحث شرعية، وإنما هي مواقف عن توابث الأمة. هل هي نفس الفكرة التي يتبناها مشروعكم الذي سبق أن أطلقتموه منذ سنة 2007؟ دعيني من مهاترات البيانات، ولنتحدث عما هو أهم وأجدر، وهو ما سميته أنت بالمشروع، فلنسلم جدلا أنه مشروع، ولا أجد حرجا في ذلك، على الرغم من أن بعض المغرضين يحملونه محمل الخيانة والعمالة وبيع الذمم، لكنه في حقيقته مشروع صادق هادف، شامل لكل المناحي العلمية والفكرية والدعوية والحقوقية، ويمكن تقسيمه إلى مستويات، لكن قبل الخوض في ذلك أود التوقف مع مصطلح التراجع والمراجعة، وقبل ذلك كله أسأل الله الثبات، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور، وأرجو منه عز وجل حسن الخاتمة، وأسأل مقلب القلوب أن يثبت قلبي على دينه، وأن يصرف قلبي على طاعته، وأن يرزقني الصبر واليقين، وأن يحشرني مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. لكن حين نسأل الله الثبات، فالثبات على ماذا؟ هل هو الثبات على اختيارات وترجيحات ومواقف خاضعة للتقديرات والموازنات، ومعرضة للإصابة والخطأ، والتقديم والتأخير، أم أنه الثبات على دين الله تعالى، وعدم الانحراف عنه، واتباع الشهوات والشبهات، لا شك أن الثاني هو المقصود، فنسأل الله الثبات على الدين، وليس على مسائل خلافية اجتهادية تدور بين الراجح والمرجوح، وأقصد بالدين مسائل الإيمان المجملة، والمعلوم من الدين بالضرورة، ومكارم الأخلاق، وهي أسس دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم. أما كل ما عدا ذلك فهو قابل للمراجعة وإعادة النظر، وكلما ازداد المرء علما وفتح الله عليه ما أغلق عليه من قبل، كلما ازداد بصيرة ولم يجد حرجا في نقض اختياراته السابقة، وهذا ديدن السلف الكرام، الذين ربوا أنفسهم وتلاميذهم على الدوران مع الحق حيث دار، لا يخشون في ذلك لومة لائم. ولا سبيل لمن أراد تصحيح مساره، وإصلاح مسيرته، إلا بالمراجعة، ومن حرم لذتها فقد حرم خيرا كثيرا، بل هو محجوب بظلمات الغرور والإعجاب بالنفس والاعتداد بحظوظها، وهذه أمراض مقيتة مهلكة والعياذ بالله، تمنع صاحبها من اكتشاف أخطائه، ومواطن خلله، وتمنحه فرصة الاستدراك قبل أن يتسع الخرق على الراقع، فالمراجعة المراجعة قبل فوات الأوان، فيا فرحة من نال هذه النعمة، وذاق هذه اللذة، وتواضع لله تعالى وتذلل له، وآب إليه وعاد، قبل الهلاك والبوار، ويا خيبة من غرته نفسه، وغلا فيها، فظن أن ليلة صلاها ذات يوم، أو يوما صامه في غابر الدهر، أو بندقية حملها في ساحة الوغى، أو موقف شجاعة وصلابة قامه بين يدي جائر، ستجعله يطأ الجنة بكلتا قدميه، ويرتع فيها ويمرح، ورحم الله أمير المؤمنين عمر إذ يقول: (ولايمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل). خلاصة القول؛ المراجعات ضرورة شرعية، وواجب عقلي، وسمو أخلاقي، وبناء إصلاحي ، ومشروع نهضوي. لاتفوتني هنا الإشارة إلى أن البعض قد يقبل المراجعة ولا يقبل التراجع، فيقولون تراجعات لا مراجعات، ولا أدري ما العلة في هذه الحساسية، ألم يقل الله عز وجل :(إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة)، فالتراجع عن الدين، والخذلان والنكوص عن نصرته، لا يقبله مسلم ولا يرضاه، لكن التراجع عن موقف اتخذ على عجل، أو فكرة ظهر بطلانها، أو تقدير بان غلطه، محمود ومطلوب، بل شجاعة وجرأة، وعزة وفخر، ألم يتحيز سيف الله المسلول بجيش المسلمين يوم مؤتة، فقال الصبيان: أولائك الفرار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أولائك الكرار، أولائك الكرار، فالتراجع عن الباطل والخطأ والتقدير السيء فضيلة ومنقبة. عودة إلى المشروع الذي سألت عنه، والذي هو نتيجة سنوات من المطالعة والقراءة والبحث والدراسة والمذاكرة والمناقشة، لمختلف الاتجاهات والمدارس والأفكار والفرق والطرق، ويمكن تقسيمه إلى مستويات: مستوى علمي، مستوى فكري ومستوى دعوي جهادي. أولا: المستوى العلمي، وهذا مجال واسع رحب غير محدود، وهو أوسع هذه المستويات، بل هو أصلها وأساسها، فإن سنوات السجن الطويلة، وما هيأته لنا على شدتها من فرصة الاطلاع الواسع، وقراءة المطولات والأصول التي لم يتيسر لنا قراءتها كاملة قبل السجن بفعل الانشغالات اليومية، وما صاحب ذلك من مناقشات علمية مع المشايخ وطلبة العلم، كل ذلك سمح لي شخصيا بإعادة النظر والمراجعة في كل مسائل العلم وفروعه، من مسائل العقائد التي اختلفت فيها الأمة، إلى الفقه بكل أبوابه وفصوله، من كتاب الطهارة إلى الهبة والعمرى والرقبى، مرورا بالنكاح والجهاد والفرائض وغيرها، إلى أصول الفقه بكل مباحثه، من التعريف والثمرة والاستمداد، إلى الاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح، إلى السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، من عقد الإمامة وشروطها، إلى أحكام الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى التاريخ من العصر الجاهلي إلى الواقع المعاصر، إلى مباحث الحديث والقواعد الفقهية والنوازل المعاصرة، وخاصة قضايا المعاملات والصفقات المالية، فهي مراجعة علمية شاملة، أثمرت بحمد الله اطلاعا واسعا، ورؤية متفتحة، وسعة صدر ورحابة أفق، وبنت منهجا متوازنا، منضبطا بأصول الشريعة، ملتزما بالأدلة الشرعية المعتبرة، نابذا لكل التحزبات العصبية، موسعا باب العذر في الأمة، مجلا لكل علماء الإسلام وخدامه، مبنيا على الحد من الفوضى والتسيب التي يشهدها المجال الشرعي والعلمي، فهذا المنطلق هو أساس هذا المشروع، بعض الناس يظنون أن الغرض من هذه المراجعات الخروج من السجن وإنهاء المحنة، ومع أن السعي وسلوك الأسباب لذلك مشروع ومطلوب، إلا أنني أؤكد أن هذا المشروع العلمي لم يتأثر في شيء منه بواقع المحنة، إلا في الجانب الدعوي وأخذ العبرة واستخلاص الدروس والتعرف على الأخطاء ومواطن الخلل، أما الجانب العلمي المحض، فلا أثر إلا للدليل والحجة والبرهان، ولا سلطان إلا للقواعد العلمية، والضوابط المنهجية، والله رقيب على ذلك وشهيد، فكما راجعت النظر في بعض مباحث الجهاد والسياسة الشرعية، كذلك راجعته في بعض مسائل الطهارة والصلاة، وفي بعض مسائل النكاح والطلاق، فمثلا كنت سنوات وأنا أرى عدم مشروعية ما يسمى عند المغاربة ب(دارت)، والتي يعتمدها كثير من الموظفين والنساء طريقة من طرق التوفير، فكنت أمنع من ذلك باعتبارها قرضا جر نفعا، لكن بعد مطالعاتي داخل السجن وتوسعي في المسألة، ووقوفي على تفريق أهل العلم بين ما جر نفعا لطرف واحد وبين ما جر نفعا للطرفين، ومقارنة ذلك بالسفتجة التي أباحها بعض أهل العلم، غيرت رأيي في المسألة، واقتنعت بالجواز، فهل هذه المراجعة كانت بسبب السجن، أم أنها كانت لإعادة النظر في الأدلة بكل تجرد وصدق، فكذلك الحال في كل مسائل العلم التي راجعت النظر فيها، سواء ما تعلق منها بالنوازل المعاصرة أو غيرها، لكن بعض الناس هداهم الله يعدون كل رجوع عن قول سابق نكوصا وفتنة وتخاذلا، وإذا قلت له اليوم قولا عارضك بسابق كلامك، وأنت نفسك قد سألك فلان يوم كذا فأجبته اليوم بكذا، يريد أن يحرجك بذلك، وكأنه من العيب أن تغير القول في مسألة بعد إعادة النظر في أدلتها، أو الاطلاع على دليل غاب عنك أول أمرك، فالعلم بحر لا ساحل له، وما أوتي القوم إلا من قلة اطلاعهم على مناهج السلف في هذا الباب، وما علموا أن جبلا كالإمام أبي حنيفة النعمان يقول:(ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد) وفي رواية:(فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)، ولو رجعوا إلى كتب الخلاف الفقهي، لوجدوا للإمام أحمد في المسألة الواحدة رواية توافق كل الأقوال المختلفة، ولعلموا أن للشافعي مذهبين، مذهب في القديم وآخر في الجديد، لكن صدق من قال: من جهل شيئا عابه. ثانيا: المستوى الفكري، وهو مرتبط بسابقه، من حيث إنه ثمرة تلك المطالعات والقراءات، لكنه يعنى خاصة بالجوانب المنهجية والفكرية، والعلاقة بالتيارات الإسلامية المعاصرة، كما أنه يعنى بقراءة التاريخ الإسلامي قراءة منصفة محايدة، قراءة تحليلية تحاول فهم الوقائع والأحداث بشكل أعمق وأدق، وتراعي الظروف السياسية التي دفعت إلى كثير من المواقف التي يعتقد أنها عقدية أو فقهية أو دينية بالعموم، ولا أنس الإشارة إلى أن الاطلاع على كتب بعض الأئمة الكبار كابن الوزير والمقبلي وحسن الجلال، وتأثري بمدرستهم الفكرية الإصلاحية التربوية التجديدية، كان له أكبر الأثر في هذا التحول المنهجي، والذي أثمر بعض أبرز معالم هذا المشروع، بل ألهمتني شعاره وعنوانه، وهو إيثار الحق على الخلق، في رد كل المذاهب والأقوال والخلافات إلى المذهب الحق. ثالثا: المستوى الدعوي الجهادي، وهو نتيجة تأمل ونظر في كل التجارب الجهادية، وكل تجارب الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل تجارب الخروج على الحكام، وكل تجارب الدعوة والوعظ والإرشاد، فانتهينا إلى هذه المعالم، حرصا منا على سمعة هذا الدين، وسمعة حملته ودعاته، وحرصا على تبليغ هذه الرسالة لأكبر قدر ممكن من العالمين، وإقناعهم بمحاسنها وفوائدها، وحرصا منا على شعيرة الجهاد، وقيامها بدورها الفاعل، سواء في الدعوة والتبليغ، أو في الممانعة والمقاومة، وتحصينها مما يدمرها ويضيع ثمراتها، وحرصا منا على إعمال القواعد الشرعية والعقلية في هذين المجالين، وعلى حسن تقدير المآلات والمصالح والمفاسد فيهما، ودفع لباب التهارج بين الفصائل العاملة للإسلام، واحترام عبودية الجميع، مع ضرورة النصح والتوجه والإرشاد، فهذه المعالم وغيرها مما تجدونه في وثيقة المشروع أهم ما يميز رؤيتنا الفكرية. هذه باختصار أهم معالم المشروع، وهناك نقاط أخرى ليس هذا مجال التفصيل فيها، علما أن هذه رؤوس أقلام لا غير، أما التأصيل والتفصيل والاستشهاد والاستدلال فليس هذا موضعه أيضا، وسيكون ذلك عن قريب بإذن الله. وكل ما سبق هو مشروع غير متعلق بواقع المحنة التي نحن فيها، وإن كان قد خرج منها، ولا أمانع في استثماره لصالح الملف، لكنه مشروع علمي فكري إصلاحي، هو أساس دعوتي ومنهجي داخل السجن وخارج السجن، ألقنه لطلابي، وأربي عليه تلاميذي، وأبثه في ثنايا كتاباتي وتأليفاتي، وأدفع عنه وأذب عنه بكل جهدي وقوتي، ولا أبالي بمن خالفني لهوى أو عصبية أو تقليد. (يتبع)