عندما سمعت قريش آيات القرآن الكريم ذهلت واحتارت، ولم تستطع تصنيفه فيما ألفت من فنون القول والبيان: هل تصنفه ضمن الشعر؟ لا بالتأكيد. هل تشبهه بسجع الكهان؟ لم تجد لهذا الزعم دليلا تقنع به نفسها، فكيف بغيرها من قبائل العرب؟ واقترب موسم الحج وأحست قريش بخطورة اختلافها في شأن موقفها من القرآن، وأدركت أنه لا بد لها من أن تتحد على وصف تصفه به، حتى لا تظهر أمام العرب بمظهر المتناقض. جاء في كتاب الروض الآنف: ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش... فقال لهم إن وفود العرب ستقدم عليكم.. وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا... قالوا: فأنت يا أبا عبدشمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر، قال ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا: فما نقول يا أبا عبدشمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة.. وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره؛. لكن كأي حملة دعائية كانت قريش من حيث لا تدري تذيع خبر النبي صلى الله عليه وسلم بين العرب، وأحست بخطورة الأمر ففكرت في أسلوب المساومة بدل المواجهة. وقد سجلت كتب السيرة مساومات عديدة نذكر منها ما جاء في سيرة ابن هشام: فقال له عتبة: فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. قال يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم قال فاسمع مني، قال أفعل. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه؛ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك؛.