يبدو أن الساسي لم يتابع بشكل جيد أطروحة العدالة والتنمية في مؤتمره السادس، حتى يتسنى له مناقشة أطروحة هذا الحزب حسب وثائقه، وليس بحسب ظنونه، فهذه الوثيقة المرجعية، توضح مفهوم الحزب للمرجعية الإسلامية، وتوضح مفهوم الكسب والاجتهاد الذي يقدمه الحزب انطلاقا من هذه المرجعية، وتوضح أكثر حدود التلاقي بين هذا المنسوب إلى الاجتهاد ضمن أطر الشريعة وبين الآليات الديمقراطية، إذ إن التحول قدم اجتهادا يتجاوز الأطروحات التقليدية داخل الحركة الإسلامية، والتي تجعل الحركة ناطقا باسم الشريعة، وتجعل الشريعة في مقابل القانون الوضعي، أو تجعل الاجتهادات التي تصدر عن بقية الفرقاء السياسيين في خانة الاجتهاد الوضعي المناقض للشريعة وأحكامها. فالأطروحة، إذا رجع إليها الأستاذ، تشترط الشرعية الديمقراطية، ولا تجعل من سلطة الانتساب إلى فهم الشرع مبررا لعدم قبول ما تفرزه العملية الديمقراطية. بل إن الأستاذ محمد الساسي، لو تتبع السلوك السياسي لحزب العدالة والتنمية، في التعاطي مع بعض القضايا التي تبرز فيها المخالفة الصريحة للثوابت (بمعنى القطعي للدلالة)، ولو أعمل المنهج النقدي المقارن، لانتهى إلى حصول تطور نوعي في كسب الحركة الإسلامية السياسي، وأدعوه إلى المقارنة بين موقف العدالة والتنمية من قضية القروض الصغرى وبين موقفه الجديد في طرح قضية التمويلات البديلة، إذ يكشف ذلك تطور العقل السياسي الذي بدل أن يتجه إلى رفض معاملة مالية ما ويتجند من أجل مناهضتها، صار مقتنعا اليوم بفكرة اقتراح بدائل وترك الخيار للناس بين الموجود من الخيارات؛ شريطة إعطاء نفس الامتيازات للصيغ الموجودة. هذا مجرد مثال للفت الانتباه، وإلا فهناك العشرات من الأمثلة التي لا يبصرها من لا يتتبع بشكل دقيق الكسب والسلوك السياسي للحركة الإسلامية. أما التتبع الحسابي الذي قام به الساسي في برنامج حزب العدالة والتنمية الانتخابي، والذي قاده إلى أن معدل المرجعية الإسلامية ضمن توجهات الحزب وتدابيره في البعض المحاور لا تتجاوز 2,96، فهو جهد يستحق التقدير، لكن مشكلة هذا الجهد أنه ينطلق من رؤية تفصل بين أحكام الشريعة الثابتة، والتي حاول الساسي أن يعدها، وبين الاجتهاد المنتسب إليها، وهي الأفكار التي تنطلق من التقدير المصلحي مما لا نص يعتبرها أو يلغيها، أو ما يوافق مقاصد الشريعة من القناعات والتوجهات والتدابير التي تنتسب إلى مرجعيات أخرى. فهذا الفصل من الناحية الأصولية والمنهجية- وهنا أتحدث من داخل المنهجية التي تحكم تعامل الإسلاميين مع المرجعية الإسلامية ما دام الساسي يحاكم خطابهم- هذا الفصل لا معنى له، إذ ما من تدبير يحقق مقصود الناس ومصالحهم، وما من توجه لا يتعارض مع مقاصد الشريعة، فهو مرتبط بحبل موصول إليها. هذا من حيث المنهج، أما من حيث الحيثيات، أما من حيث المقاربة السياسية، فالثابت أن حزب العدالة والتنمية في أطروحته السياسية صيغة التمييز بين الديني والسياسي، وهي الصيغة التي تجعل مقاربته السياسية محكومة بالنظر إلى السياسات العمومية وتدبير الشأن العام، وهو المجال المعروف أصوليا بتأسسه معظم فروعه وقضاياه على المصلحة المرسلة التي يحكم فيها الاجتهاد المقاصدي، وكل اجتهاد يتحصل منها لا يمكن إخراجه من خانة الاجتهاد المنتسب إلى المرجعية الإسلامية والمشدود إليها. وبهذا يكون الاستنتاج الذي ذهب إليه الساسي، كاشفا من جهة، عن حركية الاجتهاد داخل الحركة الإسلامية بديل أنها كانت تقدم أكثر من 90 من المائة من التدابير والتوجهات عبر استعمال الاجتهاد، وكاشفا من جهة أخرى على عدم التتبع الدقيق لأدبيات حزب العدالة والتنمية في تمثله للعديد من المفاهيم والمقولات. هذه بعض الملاحظات التي يمكن أن نسجلها على بعض ما طرحه الساسي في مداخلته، وللموضوع عودة أخرى.