خلصنا في حلقة نظرات في معنى القيام بالدين وإقامته إلى أن من معاني إقامة الدين: حفظه وتوفيته حقه والاستقامة عليه، والعمل به والاستمرار والمداومة والثبات عليه، والقيام بأمره في النفس وفي الناس، وتهيء ما تحتاجه إقامته من وسائل وأسباب..، وبقي الآن تعميق النظر بما تيسر في لفظة الدين ذاته حتى نقف على المقصود منه في التداول اللغوي والشرعي، والاقتراب أكثر من الدين المراد إقامته، بغض النظر عن متى وكيف ومن يتصدى لذلك وغيرها من التساؤلات حتى نتحرر في تحديد المفهوم من قيود التنزيل. إن لفظة دين من الأصول اللغوية المشتركة والتي تحتوي على معاني عديدة تصل إلى حد التضاد، والتي لا يحسمها غير السياق الذي ترد فيه، وقد أورد ابن منظور في لسان العرب قول ابن الأعرابي : دان الرجل إذا عز و دان إذا ذل و دان إذا أطاع و دان إذا عصى و دان إذا اعتاد خيرا أو شرا و دان إذا أصابه الدين وهو داء وأنشد : يا دين قلبك من سلمى وقد دينا، قال : وقال المفضل معناه يا داء قلبك القديم . و دنت الرجل : خدمته وأحسنت إليه . و الدين : الذل . و المدين : العبد . و المدينة : الأمة المملوكة كأنهما أذلهما العمل. وسأركز على المعاني الأساسية للدين من قبيل ما ينسجم مع أصول: دان يدين، ودان له، ودان به، دون الشاذ قليل الاستعمال، فالدين بالكسر الجزاء والمكافأة، وداينه دينا أي جازاه، ففي اللسان: الدين : الجزاء والمكافأة . و دنته بفعله دينا : جزيته، و يوم الدين : يوم الجزاء . وقوله تعالى انا لمدينون أي مجزيون وفي المثل : كما تدين تدان أي كما تجازي تجازى، أي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت.يقول خويلد بن نوفل الكلابي للحرث بن أبي شمر الغساني وكان من ملوك العرب الفاسدين، والذي إذا أعجبته امرأَة من بني قَيْسٍ بَعَثَ اليها اغْتَصَبها : يا أيها الملك المخوف أما ترى üü ليلا وصبحا كيف يختلفان؟ هل تستطيع الشمس أن تأتي بها üü ليلا وهل لك بالمليك يدان؟ يا حار، أيقن أن ملكك زائل üü واعلم بأن كما تدين تدان ( وحار: ترخيم حارث) ومن ذلك صفة الله عز وجل الديان وأورد البخاري بصيغة يذكر وحسنه الأباني عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان. والديان: المجازى الذى لا يضيع عملا بل يجزى بالخير والشر. وفي الحديث : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله قال أبو عبيد : قوله دان نفسه أي أذلها واستعبدها وقيل : حاسبها . وفي تاج العروس للمرتضى الزبيدي:دين الرجل في القضاء وفيما بينه وبين الله : صدقه . قال ابن الأعرابي : دينت الحالف أي نويته فيما حلف وهو التديين . والدين: السياسة والملك والقضاء والأحكام والتشريعات، جاء في لسان العربو دنته أدينه دينا : سسته و دنته : ملكته . و دينته أي ملكته . و دينته القوم : وليته سياستهم قال الحطيئة : لقد دينت أمر بنيك حتى üüü تركتهم أدق من الطحين يعني ملكت أمرهم ، ومنه سمي المصر مدينة .و الديان : السائس .قال ذو الإصبع العدواني : لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب üü عني، ولا أنت دياني فتخزوني قال ابن السكيت : أي ولا أنت مالك أمري فتسوسني . وفي التنزيل العزيز : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } قال قتادة : في قضاء الملك . وما يؤكد معنى الأحكام والتشريعات للدين ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و الدين : العادة والشأن، تقول العرب : ما زال ذلك ديني وديدني أي عادتي . و هو أيضا : الحال . قال النضر بن شميل : سألت أعرابيا عن شيء فقال : لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك . والدين: الطاعة، ففي تاج العروس: الدين ( الطاعة ) وهو أصل المعنى، وقد دنته ودنت له أي أطعته، ودنته أدينه خدمته وأحسنت إليه . قال عمرو بن كلثوم : وأياما لنا غرا كراما üüعصينا الملك فيها أن ندينا قال مرتضى الزبيدي: وقوله تعالى: لا اكراه في الدين يعنى الطاعة فان ذلك لا يكون في الحقيقة الا بالاخلاص والاخلاص لا يتأتى فيه الاكراه . ومن طرائف ما أورده صاحب تاج العروس، ما نقله عن الاصمعي عن بعض العرب قال:انما فتح دال الدين لان صاحبه يعلو المدين، وضم دال الدنيا لابتنائها على الشدة، وكسر دال الدين لابتنائه على الخضوع . وفي حديث الخوارج : يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يريد أن دخولهم في الإسلام ثم خروجهم منه لم يتمسكوا منه بشيء، كالسهم الذي دخل في الرمية ثم نفذ فيها وخرج منها ولم يعلق به منها شيء. قال الخطابي : قد أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم. قال الخطابي : يعني قوله : يمرقون من الدين أراد بالدين الطاعة أي أنهم يخرجون من طاعة الإمام المفترض الطاعة وينسلخون منها. وجاء في تاج العروس: الدين: ( الذل ) والانقياد، قيل هو أصل المعنى. وبهذا الاعتبار سميت الشريعة دينا. والجمع أديان . يقال : دان بكذا ديانة و تدين به فهو دين و متدين . و دينت الرجل تديينا إذا وكلته إلى دينه . و الدين : الإسلام وقد دنت به . ومنه قول علي رضى الله تعالى عنه للكُميل بن زياد محبة العلماء دين يدان الله به قال الراغب الأصفهاني ومنه قوله تعالى: أفغير دين الله يبغون يعني الاسلام لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وعلى هذا قوله هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق. و الدين هو العبادة لله تعالى، قال صاحب تاج العروس: والدين اسم لما يتعبد الله عز وجل به. فجوهر الدين صدق الإيمان بما يخبر به الرحمان وما صح عن النبي العدنان، وخضوع وتذلل وطاعة للديان، ومن ثم لا يتصور دين صحيح في ميزان الله من غير إسلام واستسلام.