نعيش في هذه الحلقة مع نموذج رائع في التوجيه الرباني للاستقامة على أمر الدين، ونحيى مع مثال نعرف من خلاله سر قول حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم شيبتني هود وأخواتها ونقف معه على مقدار الجهد الذي ينبغي أن يبذل لإقامة الدين على مستوى كل فرد فرد من غير استصعاب أو اعتقاد استحالة وهو إن شاء الله يسير على من يسره الله إليه ولا يكلف سبحانه عباده ما لا يطيقون. قال تعالى: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصيرهود(112) قال النووي في شرح مسلم في حديث قل آمنت بالله ثم استقم:قال بن عباس رضي الله عنهما ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولذلك قال صلى الله عليه و سلم لأصحابه حين قالوا قد أسرع إليك الشيب فقال: شيبتني هود وأخواتها قال الأستاذ أبو القاسم القشيرى في رسالته الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده. وقيل: الاستقامة لا يطيقها الا الاكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدى الله تعالى على حقيقة الصدق.ج2ص9 فإذا استحضرنا هذه الآية فاستقم كما أمرتوما بعدها من أوامر وتوجيهات، نجد أنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم ومن التائبين من التقصير ممن هم معه، الثبات على الدين والاستمرار في إقامته، هو ومن معه من أولئك الصحب الكرام الذين آمنوا يومئذ أو التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، فنجد في الآية وما بعده المعاني التالية: الاستقامة على الأمر، التوبة، معية الصالحين، عدم مجاوزة الحد بالطغيان، العلم بالله سبحانه وبأنه مطلع على الأعمال،عدم الميل إلى الظالمين وعدم موالاتهم ومتابعتهم وعدم الرضا بأفعالهم فيفقد العبد ولاية الله التي يفقد بفقدها نصرته سبحانه، وأيضاً الأمر بإقامة الصلاة والمحافظة على الصلوات الخمس، وفعل الحسنات التي تذهب السيئات وذكر الله عز وجل، والصبر، ثم الإحسان. إنها بحق آية تهز كيان المومن وتزلزل فؤاده خشية من عدم التمكن من الوفاء لمقتضياتها، آية تخاطب الإنسان كله ليستقيم على الدين كله، تصديقا لخبره وامتثالا لأمره واجتنابا لنهيه. تخاطب قلبه ووجدانه وضميره وفكره ونفسه وتجليات روحه وباطنه، وتخاطب أيضا لسانه وبصره وسمعه ويده ورجله وبطنه وفرجه وجميع جوارحه ومجمل ظاهره، كما تخاطب فيه مجمل العلاقات التي يقيمها مع محيطه: أسرة وقرابة ومجتمعا ودولة وأمة وإنسانية، وتخاطبه حاكما كان أو محكوما، كما تلاحقه في أي مجال كان في عقيدة أو عبادة أو سلوك وأخلاق أم سياسة أم اجتماع أم مال واقتصاد.. فهو مطالب مثلا أن يستقيم في قلبه على الإيمان حباً لله عز وجل، وخوفاً منه، ورجاءً فيه، وتوكلاً عليه، وإنابةً إليه وتوبة من ذنوبه وتقصيره، وإخلاصا له، وشوقاً إليه، وزهداً في الدنيا، ورغبةً في ما عند الله، وشكراً لنعمه، وصبراً على بلائه، ورضاً بقضائه، يتقي محارمه، ويجاهد نفسه، ويقنع بما يسر الله له من الحلال الطيب، يتقي الشبهات،ويجتنب الرياء والعجب والكبر، يحاسب نفسه، ويخاف من ذنوبه، يحذر الحسد ويجتنب سوء الظن، ويستغني عن سؤال الناس، ويتجنب التكلف.. ويستقيم في فكره على وحدانية الله سبحانه في: أسمائه، وصفاته، وأفعاله، ويومن بقضائه، وقدره، وقدرته، وعظيم صنعه، ويفكر في ربوبيته وألوهيته وخلقه،وينظر في آيات الأنفس والآفاق.. ويكون على أكمل الأحوال في المنهج الذي يسير عليه: متمسكا بكتاب الله، متبعا لسنة رسول الله، مؤمنا بالاجتهاد بضوابطه ومقاصده وشروطه لبسط رداء التدين على مجمل جوانب الحياة، ملتزما بالجماعة نافرا من الطائفية والشذوذ، ويسامح عند الاختلاف المشروع، محبا للصحابة ولآل بيت محمد،لا يطيع المخلوق في معصية الخالق، يقدر الرخص بقدرها، مقتنعا بمبدإ التيسير ورفع الحرج ومنهج الرحمة، متبعا للحق ولو أن يبقى وحده غير مغتر بالأغلبية المسيئة ، مجتنبا للبدع ومخالفا لأهل الباطل، حريصا على الصواب والحكمة لا يهمه من أين جاءت ولا من أي إناء خرجت، مهتما بإتقان العمل والإحسان فيه، يستفيد من الوقت ويداوم على العمل الصالح، لا يمل من الاستشارة والاستخارة.. ويستقيم في لسانه فينظر الإنسان فيما يتكلم به ويحذر مما حرَّم الله من الكذب، والغيبة، والنميمة، والسب، والبذاء، والطعن في الناس، وأذيتهم بلسانه . يكفَّ لسانه إلا من خير فهو إما ذاكر غانم أو ساكت سالم، يشتغل بذكر الله تعالى؛ وتلاوة القرآن، والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودلالة الخلق على الخير.. كما ولابد من استقامة النظر بغض البصر، والكف عن المحارم، واستعمال العبد نظره في طاعة الله، فينظر في كتاب الله تعالى متدبراً، وفي ملكوت السماوات والأرض متفكراً.. ومن الاستقامة أن يشغل العبد سمعه بذكر الله وكلامه وكلام رسول الله، فيسمع دروس العلم حتى ينتفع بذلك ويهتدي إلى سواء السبيل.ويسمع الموعظة الحسنة حتى يتذكر ويخشع، ويستمع للكلام النافع المفيد ويتجنب ما يفسد عليه قلبه ودينه.. وكذلك الشأن في استقامة باقي الجوارح من: اليد، والرجل، والبطن، والفرج، فإن كلاً منها له أثره في استقامة القلب وصلاحه. يستقيم في عبادته: صلاة وزكاة وصياما وحجا وجهادا ودعاء وصلاة على رسول الله و مداومة على شكر نعم الله.. ويستقيم باجتناب الآثام من شرك وعقوق وزور وقتل وسحر وقذف وتول يوم الزحف وأكل مال اليتيم وربا واحتكار وغش، وزنا وشرب خمر وقمار وسرقة وخيانة وظلم وتخنث وكشف للعورات ولعن وفحش ومجاهرة بالمنكر.. ويحرص بالمقابل على العدل، والورع عند كسب الرزق، والسخاء والصدق والأمانة والوفاء، والحياء وحسن الخلق ورحمة العباد، واجتناب الغضب والتحلي بالعفو والتواضع والطاعة في المعروف لمن يستحق ذلك، وترك الفضول وما لا يعنيه، وترك المراء والجدل، يحب للناس ما يحبه لنفسه، يدخل السرور على المسلمين، ويحرص على صلة الرحم والإحسان للجار،ويمتاز بالرفق ويسعد بقضاء ما يستطيع من حوائج الناس... واسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ؟ فيه أمر بالتعلم والعمل والمتابعة والدعوة إلى كل ذلك، فمن عزم أن يسير في الطريق لابد أن يعلم معالمه وحدوده.ولا بد أن يتعلم أمر الله تعالى وأمر رسوله؛ لأن كيفية الاستقامة لا يكفي فيها مجرد العزم حتى يتعلم ما أمر به، ولابد أن يسمع كل ذلك بتفهم وتدبر حتى يفقه القرآن والسنة وسيرة المصطفى ليأخذ منها الهدي والمنهج، فإن كثيراً من الناس يريدون أن يسلكوا إلى الله، غير أنهم يخطئون الطريق، فيسيرون في طريق غير الطريق المأمور به. ويبتدعون في دين الله، فيرد عليه عملهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد رواه مسلم. وبعد قوله سبحانه:فاستقم كما أمرت.. تتابعت الأوامر، أوامر الفعل وأوامر الترك، فقال عز من قائل: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون(113) وقال سبحانه:وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرينهود (114) وقال أيضا:واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .. هود (116) ثم قال:ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون هود (123) فاستحضار الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة من مثل ما أوردناه وغيره كثير، يعطي صورة لمن يريد إقامة الدين، حتى يشمر ويركب طريق الجد والاجتهاد ويطرد من حياته العبث وتضيع الأوقات. فالراغب في العمل، له ما يقوم به من غير انتظار دولة ولا مجتمع ولا أسرة ولا حركة أو حزب ولا أي واحد من الناس.كما له مجال واسع لاستثمار موقعه وتأثيره لبث روح الاستقامة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.