تتحرك الدول في محيط غير متجانس، مفتوح على حركة مد وجزر متواصلة، حيث الانسجام ليس قانونا ثابتا، وحيث احتمالات الصدام والصراع قائمة أبداً، طالما وجد عنصر المصلحة القومية التي تعلو بالنسبة لكل كيان سياسي على غيرها من المصالح، بذا يكون على كل دولة أن تكون مستعدة لخوض صراع الإرادات واستجماع وسائل اكتساب القوة التي تحفظ لها مصالحها الحيوية. ومن هنا تكون القوة علاقةً وليست مُعطىً مجرداً ذاتياً، فهي كما يعرفها ماكس فيبر تلك الإمكانية التي تسمح بفرض إرادة الفاعل في إطار علاقة اجتماعية ما، وهي تشمل القدرة على الفعل، والقدرة على الامتناع عن الفعل أيضا. رغم التغيرات الكثيرة التي طرأت على الواقع الدولي، وبالتالي على المناهج والمقاربات النظرية لتحليل اتجاهاته، يحتفظ مفهوم +القوة؛ بمكانة مركزية ضمن مرتكزات أي تحليل للساحة الدولية، وإن واجه بعض التحديات المرتبطة بتغير معتبر في الأولويات والوسائل والأهداف. إن مفهوم القوة التي يتم احتسابها بمؤشرات مادية رياضية لم يعد قادرا على تفسير واقع الصراع في العلاقات الدولية لما بعد الحرب الباردة. هذه المقاربة كانت مجدية في قراءة تطورات الواقع الاستراتيجي الدولي خلال الصراع ثنائي القطبية، حيث كانت مشاهد الاستعراضات العسكرية الضخمة التي تجوب شوارع العواصم العالمية الكبرى في الأعياد القومية محطات لتبادل الرسائل بين القوى المتصارعة على الزعامة وترتيب القوى تبعا لمستوى التقدم الكمي والنوعي في الترسانات العسكرية، أما اليوم فإن القوة تصطدم بعجزها عن تصريف مضمونها الكلاسيكي المتمثل في فرض الإرادة على باقي الفاعلين في النظام الدولي. وهنا بالضبط مصدر الإشكالية التي يواجهها المفهوم، فالنظام الدولي لم يعد حصيلة تفاعلات مضبوطة بين الدول وحدها، بل انضم إلى الساحة عدد لا يحصى من القوى المستقلة عن مدارات الحكومات، قوى منفلتة، غير منظورة، متمردة على الضوابط العمومية وعلى الحدود الجيوسياسية. واقع عبر عنه الكاتب الفرنسي برتران بادي بعبارة +عجز القوة؛، إنها مفارقة نظرية لكنها قائمة في يوميات المجتمع الدولي، فماذا يفعل الجيش الجرار أمام شخص واحد تمكن من ولوج إحدى المؤسسات الحكومية مطوّقاً بحزام ناسف، وماذا ينفع الأسطول البحري أمام زورق سريع ينقل شحنات المخدرات عبر مضيق جبل طارق، ثم ماذا تجدي الأقمار الصناعية في وجه حركة المعلومات والمخططات السرية والتعبئة العقائدية عبر شبكة الإنترنت. تلك أمثلة غير حصرية على عصر ما يسمى بالتهديدات اللاتماثلية التي تشير إلى وجود طرفين أو أطراف متصارعة لا تستعمل نفس الوسائل ولا تتحرك على نفس الميدان. بالفعل، إن الفاعلين الجدد لا يكترثون لمراكمة المقدرات اللوجستية ووسائل الحسم المباشر بل يرفعون شعار الفعالية وتشتيت المراكز والوجود الحركي وترصد المناطق المهجورة والمجالات المهملة، مما يخلق تحدياً بالغ الصعوبة على رواد الفكر الاستراتيجي الذي تمحور لحقب طويلة حول الدولة كفاعل مركزي في علاقته مع دول أخرى. لقد اعتقدت الولاياتالمتحدة أنه بدحر العدو السوفييتي، سيكون لها أن تختلق أعداءً على المقاس من أجل تمديد العمل بالبنيات والمؤسسات السياسية والاقتصادية التي تؤمن لها استمرار الهيمنة على العالم، غير أنها ما لبثت أن وجدت نفسها في مواجهة مصادر عنف جديدة من حيث طبيعتها وأهدافها وآليات اشتغالها، والأكثر من ذلك أنها بؤر منتجة للعنف، وتحدي الإرادة المهيمنة لا تجدي معها وسائل القوة التقليدية. الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان تفعيل سياسة الإدماج والإخضاع الملازمة لكل سياسة قوة كما عرفتها العصور السالفة، وجاءت هجمات 11 سبتمبر لتدق ناقوس الخطر منبهة إلى حالة +عجز القوة؛ الكاسحة عن ردع تهديدات الجيل الجديد. لقد كانت التهديدات الكلاسيكية للزعامة العالمية أو الإقليمية ذات طابع سياسي أساسا يتم حلها على ساحة المواجهة العسكرية وسباق المقدرات المادية القومية بينما تتخذ في القرن الحالي طابعا اجتماعيا بالدرجة الأولى يعبر عن اختلالات أو مظالم، في شكل عمل إرهابي أو حرب أهلية أو تنظيمات مافيوزية. وهؤلاء الفاعلون الجدد يعلمون جيدا حجمهم وطبيعة عدوهم، فهم لا يتطلعون إلى دحر القوة المهيمنة بقدر ما يسعون إلى إحداث الضرر والتشويش على الوضع القائم وبث أجواء الارتباك من أجل تحسين قوتهم التفاوضية وفرض أنفسهم كمخاطب معترف به على ساحة صنع القرار العالمي.