ختمنا الحلقة متسائلين من أين للصائم تلك القوة التي ينتصر بها على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى خصومه الخارجيين، الظاهرين منهم والمختفين..؟ تتولد القوة في ذات الصائم وتنمو بشكل سليم بمؤثرين، سهّل عليه الصيام إلى جانب الشعائر التعبدية الأخرى، اكتسابهما، سبق لنا ذكرهما؛ وهما: الإخلاص والخضوع للحق.. أو لنقل التحري الصادق المخلص في طلب الحق والاستمساك به. فكلما قوي إخلاص العبد في التمسك بالحق، تنامت قوته الذاتية وتعاظمت حتى تصير من حيث انسياب حركتها لا يقف في وجهها شيء ولا يعوقها العائق، مادي أو معنوي.. وعلى قدر إخلاص العبد في التمسك بالحق والخضوع له، يُمده الحق بقوة من قوته التي لا تقهر.. حتى يصير كأنه قدر الله المسلط على هذه الدنيا بجميع ما فيها من باطل، ليحررها من باطلها، ويحفظ لها توازنها الذي هو مظهر الحق والعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.. ومن مظاهر استمساك العبد بالحق، وتقويه به، ما جاء في الحديث القدسي الصحيح، المعروف بحديث الولاية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قال : ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري . وعلى ضوء هذا المنطق الإيماني الذي يؤكده الحديث القدسي، فالعبد المؤمن الذي حرر نفسه من الخضوع لباطل الآلهة المزيفة، وجعلها خالصة لله مولاها الملك الحق، يكرمها الله بمقام الولاية حيث الرعاية والعناية والنصرة الإلهية.. وعندها يصبح العبد جزءا من الحق الذي يرمي الله به الباطل فيزهقه، ((بل نقذف بالحق على الباطل فيزهقه)). ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)). وتعالى الله أن تخطئ قذائفه أو تخيب رميته. ولقد استوعب الصحابة الكرام هذه الحقيقة، فخرجوا إلى الدنيا فاتحين، لا يقف في وجههم سد إلا هدّموه أو عائق إلا اخترقوه.. وصاروا يشعرون أنهم جزء من القوة الإلهية التي أرسلها الله لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.. ونلمس هذا في كلامهم مع عدوهم أثناء حربهم للفرس والروم. فواحد يسأله قائد العدو : ما جاء بكم إلينا؟ فيجيبه: (( لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة)) جواب كأنه وحي من الملأ الأعلى إلى نفس طاهرة نقية استعدت وتأهلت لاستقباله والنطق به، وهي موقنة أنها لا تقول شيئا من أهوائها وحظوظه الذاتية وإنما أُلهمت الحق الذي قامت عليه السموات والأرض ويجب يدوم ذلك في كل شيء.. وفي رسالة أحد قواد المسلمين لعله خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى نظيره من العدو ، مما جاء فيها : ((لا يغرنك من ترى حول من العد والعدد.. فو الله إنك لا تصاول البشر وإنما تصاول القضاء والقدر)) فهم رضي الله عنهم صاروا بولاية الله لهم وولايتهم لله، قدر الله المسلط على جميع أنواع الباطل الرابض في حصون الظالمين.. وهل يستطيع أحد مهما كانت قوته أن يوقف قدر الله إذا جاء؟ وهل يستطيع أحد مهما كانت قوته أن يوقف من أجرى الله قدره الغالب على يديه؟ بمثل هذا المنطق الإيماني وروحيته نقارب الإجابة على السؤال أعلاه.. فمن تقرب بالفرائض والنوافل عموما صار لله وليا. يدافع الله عنه وينتصر الله له. ((ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون)).. وشعيرة الصيام لمكانتها العظيمة عند الله ولأثرها الكبير في عبادة العباد وتقريبهم من الله، جعل الله أجرها مستورا لا يطلع عليه أحد سواه.. ولهذا فالصيام الصحيح السليم المقبول، يقرب العبد بسرعة من مقام الولاية.. وفي قوله تعالى في آية الولاية: ((الذين آمنوا وكانوا يتقون)) لطيفة تشم ولا تفرك وهي أن ((كانوا يتقون)) أي كانوا يصومون .. فالتقوى مقامات والصوم يوصلنا إلى أعلاها كما أشار إلى ذلك الشيخ دراز رحمه الله. ولهذا المنطق الإيماني وجوه تفسيرية أخرى، تبين أسباب قوة العبد المؤمن الصائم، دون إغفال لسنن الله الكونية.. أي دون السقوط في التواكلية الخرافية..