ما سبق ذكره في الحلقات السابقة عن انتصارات الصيام على عوائد الإنسان المعيقة لشخصيته عن التجدد والتطور والانطلاق نحو آفاق إنسانية أرحب وأرحب؛ ليس إلا غيضا من فيض، ضربناه مثلا على أهمية فريضة الصيام، ودللنا به على بداية الطريق الموصل على الأقل إلى الحد الأدنى من العلم بحقيقة رمضان، الذي يكون مظنة تمني أن تكون السنة كلها رمضان.. وفي هذه الحلقة سنقف عند ما يمكن اعتباره الانتصار الأكبر للصيام عموما ورمضان خصوصا.. سنقف عند ما يمكن اعتباره خروجا على سياج البشرية إلى أحوال ملائكية، حيث تصير الغرائز البهيمية المتحكمة في الجسد، خاضعة للمطالب الملائكية في حدود الاستطاعة الجسدية. وعلى قدر سيطرة الحالة الملائكية يكون العبد خاضعا ومطيعا لله مولاه الحق.. وهذا هو الانتصار الأكبر للحقيقة الإنسانية على ضروراتها الغرائزية بجميع أنواعها ومهما كانت حاجة الجسد إليها. طبعا لا يعني الانتصار عليها هو تعطيلها بالمطلق، فهذا مستحيل، ومن سعى في طلبه فسعيه باطل يقينا؛ وإنما نعني أن الإنسان يستطيع أن يتحكم فيها ولو بتغيير طرق الاستجابة لها، كتأخيرها عن وقتها، وإعطائها أقل مما اعتادت أخذه، وإعطائها ما تيسر مما يسد أدنى حاجاتها بدلا مما تطلبه بشهواتها الشرهة. وهذا لا يتأتى للعبد إلا بنوع من السمو والتعالي الذي تقدمه له العقائد والأفكار السامية. والعقيدة الإسلامية تمد العباد بأرقى الوسائل وأليقها بالطبيعة البشرية، بحيث تسمو بها وتحلق بعيدا دون أن تخرجها عن أساسيات طبيعتها.. بل إن منهج العقيدة الإسلامية في هذا المجال يهدف، بسموه وتعاليه، إلى إطلاع الطبيعة البشرية على قدراتها وإمكاناتها التي غفلت عنها، وهي جزء من طبيعتها، لكنها لا تدرك بعفوية الغرائز وتلقائيتها، وإنما بالاجتهاد التربوي التعبدي.. ومن ألطف تنبيهات العقيدة الإسلامية في هذا المضمار هو إشعارها لمخاطبيها أن في طريقة سموها بهم لبعض الوقت فوق ضروراتهم الحياتية، تأكيد لأهمية هذه الضرورات، فالبشر يستطيعون السمو عليها ولكن لا يستطيعون الابتعاد عنها حتى تنقطع ما بينهم وبينها من حبال واصلة. وعندها يعرفون حدود سلطة الضرورات عليهم، وحدود آفاق تعاليهم عليها.. فيعرفون كيف ومتى يجوز لهم التحرر منها، ومتى وكيف يكون الرجوع إليها.. ويعتبر هذا في المنهج الإسلامي شرطا أساسا ليسهل على العبد الاستجابة لأوامر الله ونواهيه. وقد عبر عن هذا بأسلوب حكيم الشيخ ابن عطاء الله السكندري رحمه الله بقوله: ((أخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك؛ لتكون لنداء الحق مجيب، ومن حضرته قريبا)). قال الشيخ زروق :((أوصاف البشرية: ما لا يكون البشر بشرا إلا به من العوائد والأسباب والأخلاق وغيرها...)). وقال الشيخ ابن عجيبة في شرحه للحكم: ((قلت: أوصاف البشرية: هي الأخلاق التي تناقض خلوص العبودية، ومرجعها إلى أمرين: الأول: تعلق القلب بأخلاق البهائم، وهي شهوة البطن والفرج، وما يتبعها من حب الدنيا وشهواتها الفانية. قال تعالى: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث))آل عمران: .14 الثاني: تخلقه بأخلاق الشياطين؛ كالكبر والحسد، والحقد والغضب، والحدة والبطر و الأشر وحب الجاه والرياسة والمدح والقسوة... وغير ذلك مما لا يحصى حتى قال بعضهم للنفس من النقائص ما لله من الكمالات)).والصيام هو أكثر الشعائر التعبدية الإسلامية قدرة على احتواء هذه النقائص وسد ثغراتها التي تحدثها انحرافات الطبيعة البشرية.. فعندما نترك شهوتي البطن والفرج بالصيام نكون قد بدأنا التحرر من هيمنة أخلاق البهائم علينا. وعندما يترك الغيبة والنميمة وقول الزور وغيرها من الأخلاق السيئة التي نُهِي الصائم عن اجتراحها، لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) البخاري. وفي حديث آخر: ((..فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد فليقل إني صائم، إني صائم)) البخاري ومسلم؛ عندما يترك الصائم هذه الأخلاق، يكون قد بدأ في الابتعاد عن التخلق بأخلاق الشياطين، وشرع في طاعة رب العالمين. وهذا هو الطريق إلى الانتصارات الكبرى في حياة الفرد والجماعة، أن ينتصر العبد في نفسه على أخلاق البهائم وأخلاق الشياطين..