عندما تم انتخابه رئيسا سنة 1996؛ لم يكن قد تبقى من بوريس إيلتسين إلا ظل رجل. كان مضطرا للخضوع لعمليات تجسيرالأوردة بشكل متكرر بعد أن نخره الكحول. وفي مارس من نفس السنة أطلقت تعيينات كل من نيمتسوف وتشوبايس سياسة الإصلاحات؛ ولكن لم يكن هناك إصلاح اقتصادي بعد. صعود لا يصدق إلى أعلى السلطة على عكس الإصلاح الاقتصادي المنتظر فإن أزمة مالية هي التي حدثت في سنة .1998 بعد إحداث عملة الروبل الجديد الذي أدى بالروسيين إلى الإفلاس؛ جاء تتابع تنصيب رؤساء الحكومات؛ كيريلينكو وتشيرنوميردين وبريماكوف وستيباشين توالوا على المنصب دون أدنى نجاح في إيجاد أي حل للأزمات المتتالية... وفي الأخير ظهر فلاديمير بوتين في شهر غشت. رجل مخيف، يدين دون شك بتعيينه إلى كونه قد وعد بتأمين إفلات شلة وعائلة إيلتسين الذين ظلوا ينهبون الدولة الروسية دون تحرج أو حياء. إيلتسين الذي كان جسديا في نهايته قدم استقالته في يوم الواحد والثلاثين من دجنبر .1999 وأصبح بوتين مباشرة رئيسا بالنيابة؛ إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية المقرر لها السادس والعشرين مارس .2000ولكن من هو هذا الرئيس الجديد فلاديمير بوتين؟ في مارس 2000 انتخب بوتين رئيسا لروسيا منذ الدور الأول بحوالي53% من الأصوات. لقد كان قد بعث بإشارات واضحة إلى عائلة إيلتسين بإعفاء تاتيانا البنت الثانية لإيلتسين من منصبها كمستشارة للرئيس: عليها إذن أن تتوقف عن ملءِ جيوبها. ولد بوتين في لينينغراد سنة .1952 بعد تكوين قانوني، التحق سنة 1975 بالكا. جي. بي. وتم إلحاقه بالإدارة العامة للمخابرات الخارجية؛ التي استمر فيها لمدة عشر سنوات. ثم في سنة 1985 تم إرساله إلى الجمهورية الديمقراطية الألمانية (ألمانياالشرقية) كمدير لبيت الصداقة الألمانية-السوفييتية؛ وهو منصب يعتبر مجرد غطاء للمهمة الحقيقية: إدارة الاستعلامات ومطاردة المعارضين. وعند عودته إلى لينينغراد تم تعيينه عميدا لجامعة المدينة التي درَّس فيها كذلك الاقتصاد. وفي سنة 1990 أصبح مستشار سوبتشاك رئيس سوفييت لينينغراد. وعندما تم انتخابسوبتشاك عمدة للمدينة التي استعادت سنة 1991 إسمها القديم سان- بيتيرسبورغ؛ تم تعين بوتين في منصب النائب الأول للعمدة من 1994 إلى ,1996 مع القيام بمهمة العلاقات الخارجية. وفي سنة 1996 دعاه تشوبايس الذي ينتمي مثله لنفس المدينة سان- بيتيرسبورغ ليلتحق بفريق الرئيسإيلتسين: هاهو على رأس الإدارة العامة للمراقبة؛ وبالتالي في يده الكشف عن ماهو مستور ومقنع من حالات الارتشاء والفساد في المراتب العليا للسلطة. ولا حاجة للقول بأنه قد كون بين يديه ملفات ثمينة عن العديد من الشخصيات المؤثرة التي سوف تسهل صعوده السريع نحو السلطة. احتفظ بوضعه كرجل ظل؛ تم تعيينه سنة 1998 مديرا عاما لمصلحة الأمن الفدرالي (الإف. إس. بي.)؛ المصلحة التي خلفت الكا. جي. بي.. وفي السنة الموالية وسع من سلطاته عندما أصبح أمين عام مجلس الأمن القومي. فعاليته الفائقة مكنته من أن ينقذ من الفضيحة رجال الرئيس إيلتسين مع توريط خصومه في نفس الوقت: عمدة موسكو لوجكوف والوزير الأول بريماكوف. وفي التاسع من شهر غشت من نفس السنة عينه إيلتسين وزيرا أولا: تم تنصيبه يوم السادس عشر من نفس الشهر. اندلاع حرب الشيشان الثانية مكنه مباشرة من اكتساب شعبية كبيرة بسعر زهيد. خصوصا وقد سبقت الحرب عمليات إرهابية في مدن روسية وداغستانية تم إلصاقها بالمجاهدين الشيشان؛ بينما أغلب التقارير تؤكد أن المخابرات الروسية؛ التي كان يرأسها فلاديمير بوتين نفسه هي التي كانت وراءها ليبدو التدخل الجديد في الشيشان دفاعا لروسيا عن نفسها من اعتداءات إرهابية. عمل تمليه فكرة السعي وراء العظمة في إطار الملف المخصص هنا للتجسس؛ فإن الهدف ليس هو رواية التاريخ الروسي للسنوات الأخيرة. ولكن الهدف من هذا الملف هو تحليل مدى ما يؤثر به تكوين ضباط الاستعلامات بالأسلوب المتبع من طرف بوتين في السياسة الحالية لروسيا. إن منهجية بوتين تقوم على تفعيل القيم التي تم تلقينها له دائما: النظام: الوطنية، العدالة الشرسة، التضامن على حساب الحريات. إنه يريد دولة قوية؛ تستفيد من مداخيل ضريبية مرتفعة. وهو ما يتضمن إقصاء البارونات الإلتسيين الذين استولوا على البلاد: وهكذا تم طرد فولوشين ثم تم الإلقاء ب كودوركوفسكي مالك المجموعة البترولية لوكوس في السجن بعد محاكمة صورية. هذه القضية الأخيرة ذات رمزية من عدة أوجه. فالثروة الرئيسية لروسيا هي الغاز و البترول. ولا مجال لتركها خارج مراقبة الدولة! غير أن سقوط كودوركوفسكي كان له هدف أبعد من ذلك: إنه إنذار موجه لجميع الأعيان؛ ذلك أن كودوركوفسكي كان يريد أن يخوض غمار العمل السياسي؛ وهذا خط أحمر يمكن أن يقضي فيه المرأ على نفسه إذا دخله بدون غطاء! خصوصا إذا كان مسلحا بوضعه الأوليغارشي الذي يضمن له الاستقلالية عن الدوائر العليا للقرار. أما فيما يخص الأوليغارشيين الإلتسينيين (السيريوفيكيون) كما يسمونهم؛ فلن يتمكنوا من الحفاظ على مقاعدهم إلا إذا وافقوا على الاقتسام مع رجال بوتين؛ أولائك القادمين من سان- بيتيرسبورغ: الذين يسمونهم السيلوفيسكيين (وبخصوص العوائد الغازية والبترولية فستبقى في يد الدولة؛ تحت رعاية غازبروم المقاولة العالمية الأولى في مجال استخراج، وتكرير، ونقل المنتوجات البترولية؛ بعد المراقبة التي تكاد تكون مباشرة ل لوكوس وروزنيفت. وبسبب ارتفاع أثمنة البترول والغاز فإن روسيا فاضت عليها الأموال في السنتين الأخيرتين: احتياطيها المالي أصبح كبيرا جدا. ونسبة النمو المرتفعة لهذا السبب لا تعكس إلا جزئيا الوضع الحقيقي للبلد الذي يعاني من إعاقة يسببها له انهياره الديمغرافي (روسيا تفقد مليون نسمة في السنة)، ونسبة التعاطي للكحول التي بلغت درجة مخيفة، ومعدل الأمل في الحياة المنخفض جدا،وتبعيتها التكنولوجية للخارج، وضعفها في مجال الاستثمار(خصوصا في استخراج النفط: رغم بلوغ الإنتاج سقفا مرتفعا)، وغياب الصناعات التحويلية لديها (روسيا لا تصدر إلا المواد الأولية)...وأما في مجال السياسة الخارجية؛ فإن الرئيس بوتين الذي أعيد انتخابه في مارس ,2004 ثم أصبح وزيرا أولا في 2008 (لأن الدستور لا يسمح بالتقدم لأكثر من ولايتين متتاليتين)؛ بعد أن قدم للواجهة الرئيس ميدفيد شريكه القديم؛ يبقى طموحه الأكبر هو إعادة لروسيا مقعدها كقوة عالمية عظمى. وهو ما يفسر العنف والقسوة الروسية الشديدة في الشيشان: فلا مجال لرؤية التراب (الروسي) مرة أخرى يتناقص! ولكن كذلك تحريك دويلات تابعة ومصطنعة في منطقة تراسنيستريا لإضعاف مولدافيا في أوسيتيا وأبخازيا بهدف تدمير جيورجيا، وفي الأخير التحالف مع أرمينيا لإضعاف أوزباكستان التي تحتل أرمينيا جزءا من ترابها: مرتفعات كاراباخ. كل هذا يتم على خلفية بترولية؛ لأن الأمر يتعلق بإضعاف منافس قوي في مجال الإنتاج البترولي؛ هو أذربيجان، وإضعاف رقم صعب تجاوزه في مجال نقل المستخرجات البترولية الأولية؛ هو جيورجيا، خصم غازبروم. وأما الإرادة المعلنة في دمج روسياالبيضاء (بييلوروسيا) في وحدة اندماجية مع روسيا فتصطدم برغبة الرئيس الحالي في التوجه أكثر نحو الغرب.وأما انفصال أوكرانيا وكريميا (التي كان خروتشوف قد ضمها إلى أوكرانيا) فإن بوتين لا زال لم يتقبل أبدا هذا الانفصال. وهذا الرفض دفعه حسب جميع المؤشرات الدالة على ذلك؛ إلى محاولة تسميم رئيس أوكرانيا؛ ثم إلى الإصرار حاليا على محاولة تفجير التحالف الموالي للغرب لأصحاب الثورة البرتقالية في كييف حتى يتمكن من إضعاف البلاد، وإلى استفزاز السلطة الأوكرانية عن طريق رفض وضع حركة الأسطول الروسي المستقر في كريميا تتم بترخيص من أوكرانيا. مع أن البواخر الروسية القادمة من كريميا ذهبت لتحاصر السواحل الجيورجية في عز الحرب الروسية-الجيورجية على الرغم من الفيتو الأوكراني. وكما نرى فإن السلطة الروسية لا تتردد أبدا في استعمال العنف وفي التعاطي للمناهج الأكثر تحايلا وخداعا لتدمير خصومها واستعادة قوتها السابقة. مناهج لا تشبهها إلا مناهج الكا. جي. بي.. غير أنها مناهج قد توصل إلى نتائج عكسية بما أنها تقلق جميع شركاء روسيا في داخل اتحاد الدول المستقلة (ة) ! والدليل هو الموقف الجديد لبيلوروسيا... فيليب فالود