قرّرت المؤسسة جمع تبرّعات للمحتاجين وأبناء الفقراء والمعوزين . فهرعت ـ كعادتي ـ إلى قريحتي، أنقّب فيها عن شيء أسهم به في المناسبة وبعد تفكير وتأمّل لمعت لي فكرة : ــ لِمَ لا أرسم ملصقا حول الموضوع ..؟ استحسنت الفكرة، ووجدت نفسي أحثّ الخطى، تلقائيا، نحو تحقيقها وبحيوية ونشاط ـ غير معهودين ـ وضعت الورقة البيضاء أمامي، لكنها ـ هذه المرّة ـ لن تحتاج إلى القلم الجاف فحسب، وإنما الأمر يستدعي أكبر من ذلك ؛ ستكون مجازفة لا محالة .. ولكن الأزمة تلد الهمّة، والحاجة أمّ الاختراع .. وبعزم مغموس بشيء من الغرور، كوّمت حول نفسي جمهرة من الأقلام الملوّنة؛ الجافّة واللّبدية، وبعض الألوان المائية ثم شرعت في تخطيط اللّوحة ملامحها الأولى بدأت تبرز للوجود، فلا ينقصني ـ بعدها ـ سوى بعض التصويب والتعديل والتنميق .. وما هي إلاّ لحظات، حتى مَثُلَ أمامي بقامته الفارعة، وبهندامه الموحي بالشيء الكثير لكن المشكلة، كلّ المشكلة، بقيت في ملامح وجهه، التي أبت أن تكتمل .. فاحتلْت عليها بجميع وسائل التنكير والإيهام والتخيّيل ؛ الخطوط والمنحنيات، التّجاعيد والظّلال .. الألوان الباهتة واللّحية المسدلة الطاقية الخرقاء، واللّباس المرقّع المهلهل كلّ هذا والابتسامة الوديعة ما زالت مرتسمة على محيّاه . احترت لأمري ؛ كيف يُعْقل أن يكون بهذا البؤس والشّقاء ـ وهذا ما أرومه طبعا ـ ومع ذلك تأبى هذه الابتسامة الحنون، إلاّ أن ترفض كلّ مساحيقي وتخيّلاتي ؟! بل وتخيّم بسنا نورها على جميع مناحي المشهد، فتقلب محتوى اللّوحة رأسا على عقب . عدت، مرّة أخرى، فرتّبت ألواني، ومرّنت أناملي لتشكيل الصورة كما تصوّرت وتوقّعت، لكنّها تخجلني أمام نفسي، كلّما قارنت بين مظاهر البؤس البادية عليها، وبين تلك الابتسامة العصيّة التي ترفض الغروب، لقد صببت عليه الشقاء صبّا، وزدته من ألوان الحرمان ما لا يطيقه بشر ومع ذلك، كلّه، ظلّ يبادلني بهذه الابتسامة الحانية، وكأنه لا يبالي بألواني ولا بظلالي، ولا بخطوطي وأفكاري . أحسست ببعض الارتباك، وهو ينظر إليّ بكلّ تحدّ واستهزاء، فعتّمت كلّ الألوان، أضفت إليها شيئا من الحزم والعزم على تسويد لياليه وتبديد أحلامه، وبالتالي إلغاء تلك الابتسامة الرّافضة للواقع، والفنّ والأدب . وبعد جهد جهيد، ووقت مديد، حملت اللّوحة بكلتا يدي، ثم وضعتها أمام عيني، لأتملّى النتيجة، ففجعت ـ كما فجعت أكثر ما مرّة ـ بهذا الشيخ الشّامخ العنيد، الذي أبى إلاّ أن يهزم جميع ألواني، وموحيات خيالي، ولمسات أناملي ليعود، مرّة أخرى، ويرسم نفس الابتسامة، لكنها ـ هذه المرّة ـ كانت أكثر لمعانا وإشعاعا . أرخيت جسدي المنهك على الكرسي، بعدما خارت قواي، وخابت جميع وسائلي بل وذابت جميع ألواني، أمام ابتسامة بؤس سعيدة، تنطّ منها نفحة لذّة غامرة، لا يعرف طعمها إلاّ البؤساء . فوضعت اللّوحة أمامي على المرسم، وبعد إمعان وتأمّل، بادلته نفس الابتسامة، ثم قلت في نفسي : حقّا، الفقراء لا يبكون ..