إفراج العدو عن الدكتور عزيز الدويك رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني قبل أن ينهي محكوميته بشهر ونصف لم يأت صدقة تبرعية من العدو، ولا بسبب الظروف الصحية للدكتور، ولا في إطار خطوة ثقة لتمهيد أرضية صفقة تبادل أسرى فما بين العدو بينه وحماس من عداء وتدافع أكبر وأوسع من أن يلملمه إفراج عن شخص ولو بحجم الدكتور الدويك.. وبالتأكيد لم يأت الإفراج من قبيل احترام الديمقراطية الفلسطينية ولا انصياعاً لقرار المحكمة التي قضت بالإفراج عنه؛ فمحاكم العدو فيما يتعلق بالفلسطينيين وبالمقاومة ليست محاكم حقيقية ولا حقوقية.. فكيف إذا تعلق الأمر بمعادلات الشرعية الفلسطينية! وكيف إذا تعلق الأمر بصناعة أزمة حقيقية ستواجهها السلطة جراء هذا الإفراج وهي التي رباها على يده وصنعها على عينه ويرعاها يوماً بيوم وقادته يشيدون بأداءاتها وإبداعاتها في خدمتهم ليل نهار، وبعد أن صارت رهانهم الوحيد، وقدمت أوراق اعتمادها من ثوابت شعبها وأمنه؟! كان باستطاعة العدو أن يلتف على قرار المحكمة بإعادة اعتقال الدكتور إدارياً لستة أشهر تمدد تلقائياً أو بقرار حاكم عسكري من ذوي الرتب المتوسطة كما حدث ويحدث مع آلاف الفلسطينيين الذين يرزحون تحت أحكام الحبس الإداري لسنين طويلة.. لنتذكر في هذا المقام السيد محمود عزام الذي دام اعتقاله اثنتي عشرة سنة بمثل هذا الحكم ولم تكن جريرته أنه رئيس مجلس تشريعي ولا حتى عضواً فيه.. إذن وبدون كثير عنت ولا مزيد تحليل يمكن القطع بأن هذا الإفراج إنما يجيء في سياق سياسي كما أن اعتقاله يوم اعتقل كان في سياق سياسي.. فماذا يا ترى وراء هذه الخطوة ؟ ولماذا الإفراج عنه في هذا الوقت بالذات؟ وكيف على الفلسطينيين أن يتصرفوا في ضوء كل ذلك؟ وأقول: نتنياهو اليوم في ورطة انغلاق سياسي وهو يبحث عن مخرج منها.. فمشروع التسوية متوقف وما يطرحه من رؤية سياسية لا يستطيع عباس قبوله ولا تسويقه.. وهو يتعرض لضغوط أمريكية وأوروبية ويغامر بحزب العمل وبائتلافه معه إذا استمر هذا الانغلاق (لأول مرة يهاجم مفوض الاتحاد الأوروبي – سولانا – خطاب نتنياهو بخصوص رؤيته للدولة الفلسطينية الموعودة !) فإذا أضيف لأزمة نتنياهو هذه احتمالات الوحدة الفلسطينية بعد أيام من الآن فإن معادلات نتنياهو ستكون غاية في التعقيد وأشبه بالانتحار السياسي.. من هنا فهو يبحث عن مخرج.. وأفضل ما يحقق له ذلك وبدون أثمان مؤثرة هو أن يقوم عباس بذلك متبرعاً غير متشرط ولا متعلل وما سيتبع ذلك من تواصلات إقليمية وتطبيعية وانجرافات إعلامية.. عباس لن يقوم بذلك (وهنا لا يسأل عما إذا كان عباس يريده أو لا يريده؛ ولكن عن مسوغات هذه الخدمة في نظر الشعب الفلسطيني وفي نظر حركة فتح التي تراقب ما يقوم به عباس ويبدو أن صبرها بدأ ينفد! والانتخابات الداخل الفتحوية على الأبواب وعباس يعلم أنها قد تعصف بكل بنائه وتفجر الأوضاع في وجهه وتفضّ عنه كل شيء إذا حاول فعل ذلك..) نتنياهو إذا خيّر بين بقائه وبقاء عباس فسيختار بقاء نفسه لذا فهو يضغط على عباس ويضعه أمام تحديين يعتصرانه ويفترض – في تقديرات نتنياهو – أن يخضعاه وإن استمر تمنعه أن يخنقاه ومن قبل فعلوا ذلك مع عرفات وإن بصيغة أخرى! التحدي الأول: اعتراض الحوار الفلسطيني وإعجاز عباس عن المناورة فيه عبر التصفيات الدموية والاعتقالات التي تمارسها الأجهزة الأمنية التي يقودها ويحركها دايتون وفياض وزمرة من المخترقين وطنياً والمشبوهين أمنياً.. وقد بات واضحاً أنهم على خلاف بل تناقض مع حركة فتح، وأنهم لا يأتمرون بأوامر عباس، (في هذا الإطار يفهم بيان كتائب شهداء الأقصى الأخير الذي هدد قادة هذه الأجهزة وتوعدهم ووصفهم بالمرتزقة والتدميريين وتعهد بحماية الرئيس وقراراته منهم) هذا أحد التحديين، أما الثاني فهو: العمل على تفجير الحالة الفلسطينية كلها - اضطراراً لا اختياراً- من خلال انتفاضة تصرف النظر العالمي عن المطلوب من نتنياهو وتصرف أمريكا وأوروبا عن الاهتمام بفروض التسوية واستحقاقاتها.. (هنا يأتي الحديث عن استفزازات من نوع ما حدث يوم الثلاثاء الماضي عندما دخل وزير الأمن الداخلي الصهيوني – يتسحاق أهارونوفيتش - إلى المسجد الأقصى تحت حراسة مشددة تذكرنا بدخول شارون إلى نفس المكان عام الألفين وكان دخوله صاعق تفجير الانتفاضة الثانية).. نعود لسؤال : أين يأتي الإفراج عن الدكتور الدويك من هذا كله؟ وأقول: هي رسالة لعباس وحركة فتح.. مفادها إما أن تطلقوا عملية التسوية من غير شروط ولا مراجعات ووفق رؤية نتنياهو وإما أن نطلق عليكم كل يوم مشكلة جديدة نملك الكثير منها.. لذا ليس من قبيل الصدفة المحضة أن يكون دخول يتسحاق أهارونوفيتش إلى المسجد الأقصى في نفس اليوم الذي أخلي فيه سبيل الدكتور الدويك! وليس اعتباطاً أن يكون المفرج عنه هو رئيس المجلس التشريعي وليس أي نائب فيه، وهو بمكانته هذه ومكانه من مدينة الخليل – المحسومة والمحسوبة لحماس - لن يقبل أن يكون صفراً حافظ منزلة ولن يقبل أن يرى الاعتقالات والاجتياحات من العدو ويرى الاغتيالات والاختطافات من أجهزة السلطة للمقاومين وأنصارهم ثم يسكت – هذا أمر مؤكد – بل سيحاول استرجاع سلطاته الدستورية على الأقل اعتبارياً وإعلامياً كما فعل يوم أفرج عنه فعقد مؤتمره الصحفي أمام التشريعي في إشارة غير خافية.. هذا كله سيشد أنفاس حماس وكوادرها وأنصارها.. بقدر ما يضاعف تأزمات عباس ويشكل تحدياً وضغطاً إضافياً عليه يجعله – أي عباس - بين نيران كثيرة تحاصره من كل الجهات؛ نار الأجهزة التي لا تنصاع له ولا تأتمر بأمره وتورطه في مواجهات داخلية واحراجات فتحوية، ونار تبرم حركة فتح وما بدأ يطفو على السطح من صراعات بينها وبين الأجهزة الأمنية، ونار التجاذبات والتزايحات بينه وبين سلطة الدويك، ونار الاستفزازات اليومية واحتمالات تفجر الأوضاع وزوال بقايا سلطته.. هدف نتنياهو أن يلجئ عباس إلى النار الأخف والخطر الأقل وهو العودة للمفاوضات.. وهو يعلم أن عباس سينحاز إلى ذاته وأمنه الشخصي وإلى رضاء العدو عنه.. هكذا تقول قراءة سريعة في فكر عباس ونمطيته وهكذا يقول تاريخه.. فعباس ليس عرفات بعزيمته ودهائه وتحدياته، وعباس لا يملك أدوات المواجهة والمناورة في ظل تحكم دايتون وفياض بالأمن والمال، وعباس - كما يقر على نفسه - لم يطلق يوماً رصاصة واحدة على العدو ولم يذق طعم الإصرار والانتصار.. هذا كله يعرفه نتنياهو ويرسم لتوظيفه فيما يريد الحصول عليه.. وهو ما – للأسف – سيكون من عباس.. وهو يسير باتجاهه وإلا؛ لماذا لم يستقبله يوم الإفراج عنه كما كان يستقبل المفرج عنهم ممن بعضهم جنائي أو انتهت محكوميته؟ ولماذا أمر بإغلاق التشريعي في وجهه ومنعه من إلقاء بيانه منه وأمر بمغادرة موظفيه؟ هنا يأتي السؤال – وبمسؤولية عالية - عن حركة فتح، وما إذا كانت ستترك عباس لضعفه ولاستفراد نتنياهو به وابتزازه له ثم تسكت؛ أم سوف تستحضر عزيمة المجاهدين وتتمثل روح عرفات ومبادراته وكاريزماه لتتحرك فوراً وقبل فوات الأوان وقبل ذات مندم لتعالج ضعف عباس، وتحصن الموقف الفلسطيني من الابتزاز والتفكك؟ وهل ستسمح بفشل الحوار الفلسطيني وبعثرة ما تحصل فيه ثم تسكت؛ أم سوف تستثمر فرصة الحوار المتاحة والرعاية العربية الحثيثة لتتصالح مع حماس بل ومع شعبها على برنامج جدي ووطني يراعي المصالح العليا للشعب الفلسطيني وغاياته في التحرر والتنمية بعيداً عن الإملاءات الخارجية وبقدر ما هو واقعي يراعي ظروف الحركتين وجوامعهما وإنجازاتهما؟ وهل ستقبل بسيطرة فياض ودايتون على القرار السياسي الوطني وعلى قود عباس في مجاهل إرادة نتنياهو ثم تسكت؛ أم ستوقفهم عند حدهم وتلجمهم عن التصرف في الحالة الفلسطينية كما لو كانت ملكاً حصرياً وشخصياً لهم ولآبائهم وأبنائهم؟ وهل ستقبل أن يعود عباس للتسوية وفق رؤية نتنياهو وتستمر التدهورات التي ينجر إليها ويتودك بها بما يخرجه ويخرجها ليس من اللعبة السياسية فقط بل ومن التاريخ الفلسطيني كله ثم تسكت؛ أم ستصر على لاءاتها مدعومة من كل شعبها وأمتها وأحرار العالم في مواجهة نتنياهو؟ والسؤال أيضاً لمصر التي ترى في حركة فتح خيارها الأوحد ورهانها الأمجد يعبث بها نتنياهو ويصل المدى في الضغط عليها ثم تسكت؛ فهل تظل تسكت؟ وهل تظل تستقبل نتنياهو وباراك وتستوثقهما عربياً وإقليمياً ودولياً؟ آخر القول: قد لا يجمع الإفراج عن الدكتور الدويك كل العناوين التي تقرأ من خلالها المرحلة.. ولكنه بالتأكيد يعطي إشارات يجب التوقف عندها ولا يجوز نزع سوء الظن عنها والتوجس منها.