احتفت أسبوعية نيوزويك في عددها الأخير بكتاب ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، مركز الأبحاث النافذ في القرار الدولي الأميركي، وهو الكتاب الذي جاء تحت عنوان حرب ضرورة.. حرب اختيار والذي عالج فيه مسارات اتخاذ القرار في حربي العراق الأولى والثانية، مقدماً معطيات دالة بحكم موقعه في الحرب الأولى ضمن مجلس الأمن القومي، وفي الحرب الثانية مديراً للتخطيط السياسي بوزارة الخارجية. يمكن القول إن سبب الاحتفاء ارتكز على أمرين، الأول جزئي رغم أهميته، ويعود لما قدمه الكتاب من معطيات جديدة حول أخطاء حرب العراق الثانية في عهد بوش الابن، وكيف أن القرار المرتبط بها كان مسألة محسومة سلفاً تبحث عن مبررات شكلية ليس إلا، ولهذا فقضايا عدم التقيد بقرارات الأممالمتحدة وحيازة أسلحة الدمار الشامل تبين لاحقاً أنها لم تكن سوى مجرد زخرفة وواجهة تم الترويج لها لبناء الدعم المحلي والدولي لسياسة كان قد تم وضعها لأسباب مختلفة تماماً في الغالب، فضلاً عن كون هجمات 11 سبتمبر حولت الإدارة إلى مطرقة تبحث عن مسمار، والذي أصبح العراق، وهي معطيات قد توفر مادة خام للساعين إلى فتح تحقيقات حول الأهداف الحقيقية للحرب، وكيف لجأ بعض قادة المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية إلى التواطؤ على اصطناع أدلة من أجل التسريع بقرار بدء الحرب. الأمر الثاني، والذي يتجاوز تلك المعطيات إلى معالجة أعمق لظاهرة القيادة العصرية، فتلك المعطيات قد لا تحدث فرقاً بالنظر لما تراكم من معطيات في السنوات الماضية أدت إلى هزيمة مدوية للحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة والكونغرس، ولهذا تتضاءل أهميتها عند مقارنتها بخلاصات تجربة المؤلف في عملية صنع القرار والقيادة الحديثة في الساحة الدولية والأميركية والتي حملت قدرا من التميز والإضافة، خاصة عندما تقدم ريتشارد هاس لمعالجة إشكالات العلاقة بين القيادة والخبرة، وتدبير العلاقة مع الرأي المخالف وما سماه معضلة الاعتراض من الداخل، والتي تضعك في مرات في مواجهة حجج تعمل على تفنيدها علنياً في الوقت الذي كنت فيه تستعملها في لقاءات النقاش الداخلي كحجج لك في مواجهة مخالفيك داخل الإدارة. ماذا يقول الكاتب في هذا الصدد؟ يمكن اختزال ذلك في جملة: إن الولاء الحقيقي هو أن تقول لرئيسك ما يحتاج لسماعه، لا ما يريد سماعه، والفرق بين الحالتين واضح وجلي، ففي الحالة الأولى أنت مطالب بقول الحقيقة، باعتبار ذلك -كما يقول المؤلف- شرط ارتقاء المؤسسة لتحقيق أعلى ما تستطيع، وقد تكون الحقيقة مؤلمة ومناقضة لما يريد المسؤول سماعه أو مفندة لرأي يتبناه، ويستعيد الكاتب هنا مقولة وردت في راوية لجوزيف هيلر قال فيها أحد مساعدي الرئيس لشخص تقدم لطلب وظيفة في الإدارة: هذا الرئيس لا يحب الرجال الذين يقولون أمرك سيدي دائماً، ما نريده هو رجال مستقلون يتمتعون بالمصداقية والاستقامة، رجال يتفقون مع جميع قراراتنا بعد أن نتخذها، ولعل الفقرة الأخيرة هي الأكثر دلالة، فالاتفاق قبل اتخاذ القرار أو أثناءه ليس مطلوباً، كما أن العكس هو الآخر ليس مطلوباً، بل استقلالية في الرأي تجعل المرء ينتقل من الاتفاق إلى المعارضة بحسب ما تمليه عليه قناعاته وليس تحالفاته أو مواقعه أو علاقته، وهي القناعة التي جعلت المؤلف يجد نفسه في معترك تناقضات حادة، ولهذا خصص الكاتب لذلك حيزا معتبرا من كتابه ليخوض في سياق تحليله لاستحقاقات ذلك في عدد من المسائل المهمة ذات العلاقة بتدبير عملية تقديم الرأي المخالف وكيفية ضمان تأثيره في وسط منغلق، جعلته على حافة الاستقالة من المسؤولية، وذلك في مرافعة لا يشتمّ منها سعيٌ للتهرب من المسؤولية بقدر ما تكشف جوانب من الدينامية المعقدة لعملية صنع وتنفيذ القرار في السياسة الخارجية الأميركية. لكن الاستقالة التي تم التردد بشأنها حصلت في نهاية المطاف، والسبب حالة نفسية أكثر منها مادية، وهي الأخرى تحيل على جانب من تحديات القيادة الحديثة والجماعية، فتنامي حالات عدم الاتفاق بين الكاتب وهو في موقع المسؤولية وبين باقي المسؤولين في الإدارة جعل من استمراريته في المسؤولية مسألة محدودة الجدوى، جعلت من الاستقالة خياراً حتمياً، بالرغم مما للمنصب الحكومي من امتيازات سياسية يصفها المؤلف بأن تكون في موقف المشارك بل والمساهم في صنع التاريخ. رغم ذلك لم يتردد الكاتب في الاستقالة، فبالإضافة إلى مشاعر الإحباط الناجمة عن الهوة بينه وبين باقي المسؤولين، فإن الكاتب غالباً ما كان يُدعى للدفاع عن سياسات كان يعارضها، محيلاً على تجربة كروديل هال وزير خارجية روزفلت، الذي قال: لقد سئمت من الاعتماد عليّ أمام الرأي العام وتجاهلي في المجالس الخاصة، وهو القول الذي يعلق عليه الكاتب بقوله: لقد تعاطفت مع الرجل كثيراً في محنته تلك، ففي الكثير من المناسبات كان عليّ أن أناقض حجج أناس خارجيين مع أن تلك الحجج كانت نفسها التي كنت أدفع بها داخل الحكومة، وهو الوضع الذي وصفه هاس بأنه صار مألوفاً، وخلاصة ذلك أن من يبحثون عن قواعد لتدبير الاعتراض من الداخل فإن الكتاب يقدم نمودجا في كيفية التعاطي مع معضلة لا يمكن إيجاد قواعد واضحة وسريعة لها، لكن مع ذلك فإنه على الأقل وضع معالم نسبية.