عندما يطرح تقرير مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي بعض التصورات والأفكار التي يعتبرها ضرورية على مستوى السياسات الداخلية في الدول العربية إذا كان لها أن تحقق التنمية والقوة الاقتصادية المنشودة؛ وبالتالي تكون لها مكانة في عالم المستقبل، فإنه في الحقيقة لم يأت بأي جديد لا نعرفه. وبعبارة أخرى، أسس الإصلاح الداخلي التي يطرحها هي في أغلبها نفس ما تطالب به النخب الوطنية العربية منذ زمن بعيد، والشعوب العربية عامة. لكن مجرد أن يؤكد عليها تقرير أجنبي مثل هذا هو أمر مهم، ومن المفروض أن ينبه ذلك القادة العرب إلى أن المطالبات بهذه الإصلاحات ليست تطرفا، ولم يعد تأجيل هذه الإصلاحات بالموقف المسئول إزاء مستقبل دولنا. وعلى أية حال، فإن التقرير، نصا وروحا، يطرح أربعة مقومات كبرى للإصلاح الداخلي في الدول العربية إن كانت لها رغبة في أن تواكب المستقبل. أولا: القيادة. والأمر هنا أنه لا يمكن الحديث عن أي مستقبل إيجابي إذا كانت القيادة لا تملك رؤية للمستقبل وتخطط له بما يضمن مصالح بلادها ويحقق لها التقدم المنشود. ولا يمكن الحديث عن أي تقدم إن لم تكن القيادة حريصة ابتداء على معالجة السلبيات وأوجه القصور، وعلى حشد كل الإمكانيات المادية والبشرية واستثمارها الاستثمار الأمثل من أجل هذه الغاية. ثانيا: الإصلاح السياسي المباشر. والتقرير هنا واضح تماما إذ يقرر أنه لا تقدم مع نظم استبدادية لا هم لها إلا البقاء في مقاعد السلطة. لا تقدم مع القمع. لا تقدم إلا في إطار نظم ديمقراطية تستطيع أن تستوعب كل قوى المجتمع وتضمن مشاركتها في صنع النهضة المنشودة. ثالثا: التقرير يعطي أهمية كبرى لتطوير العنصر البشري والارتقاء بكفاءاته وضمان قدرته على مواكبة تطورات العالم في المستقبل. ولهذا يعتبر أن الإصلاح الجذري للتعليم ونظمه هو ضرورة أساسية لتحقيق التقدم. وفي القلب من هذا الإصلاح التعليمي، يأتي الارتقاء بالتعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا التي سوف تصبح كما ذكر التقرير واحدة من أكبر ميادين التنافس والصراع بين الدول في المستقبل. رابعا: يطرح التقرير قضية الاندماج والتكامل بين الاقتصاديات العربية كضرورة أيضا للمستقبل العربي. وهذا أمر بديهي في عالم الكيانات الكبيرة والصراعات الضارية في عالم المستقبل. كل هذه الإصلاحات المطلوبة إذن، ليس فيها جديد، وحولها يدور جدل واسع في الدول العربية منذ عقود. لكن لعل تأكيد التقرير عليها ينبهنا جميعا إلى الأخطار الداهمة التي تهدد دولنا مستقبلا إن هي ظلت تتجاهل هذه الإصلاحات. أما فيما يتعلق بما يطرحه التقرير علينا على مستوى علاقات دولنا الخارجية مع دول العالم، فالأمر هنا واضح أيضا ولا يحتاج إلى تفصيل. فإذا كان التقرير يتوقع انحسار القوة الأمريكية، ويتوقع أن عالم المستقبل سوف تكون القوى الفاعلة فيه، اقتصاديا وسياسيا، دول كبرى، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، فمن البديهي أن تترتب على ذلك ضرورة إعادة النظر فورا في طبيعة علاقاتنا الدولية. من المفروض أن نرتقي فورا بعلاقاتنا مع هذه القوى المتوقع صعودها على كل المستويات، وألا نبقى أسرى علاقاتنا مع أمريكا والغرب عموما كما هو حادث اليوم. الحقيقة أن الدول العربية لو خططت استراتيجيا لهذه النقلة الضرورية في شبكة علاقاتها الدولية، فإنها من الممكن أن يكون دورها أساسيا في صياغة هذا العالم الجديد المتعدد الأقطاب، والذي هو على وجه اليقين مصلحة استراتيجية لنا ولكل العالم بدلا من عالم الهيمنة الأمريكية.