لم نكن نظن أنه يمكن أن يبلغ المدى بالبعض إلى درجة الدعوة إلى التسامح مع الجانب الساقط في المجتمع وغيره من الظواهر التي تضرب أسس النظام الأخلاقي للمجتمع، لكن هذا ما حصل في افتتاحية العدد الأخير من نيشان والتي دعت إلى فتح نقاش في الموضوع، حتى أخذت الحماسة كاتب الافتتاحية وهو يدافع عن فيلم كازانيكرا لمخرجه نور الدين لخماري حتى قال لو خلا هذا الفيلم من الهضرة الخاسرة لما كان له أي معنى، وكأن حبكة هذا الفيلم السينمائية لا تفك رموزها إلا بتلك الكلمات الساقطة. وقبل الدخول في المناقشة التي دعا إليها كاتب الافتتاحية، نقدم صورة تعكس تطبيقا لما دعا إليه، ليتبين تهاوي هذا التوجه عندما نتجاوز القضايا المرتبطة بالأخلاق والدين، فمثلا لو تم تقديم فيلم يعكس الجانب غير السوي من الحديث عن اليهود في بعض الأوساط المغربية وما يرتبط به من عبارات قدحية عنصرية لا تردد في الربط بينهم وبين أقذر الحيوانات، فماذا سيكون الموقف؟ هل يمكن أن نرد بأن هذا ليس سوى الجانب اللاأخلاقي في المجتمع وأنه لا بد من الاعتراف به والتسامح معه كمقدمة لمعالجته، وأن ذلك ليس هو النموذج، وهي الكلمات التي استعملت لتبرير الاستهلاك المفرط فيه للكلبام الساقط في فيلم كازانيكرا، وهو الكلام الذي يعبر عن مستواه الفعلي، والذي لم نكن لننخرط في مناقشته الفعلية لولا العودة إليه كمرتكز لترويج فكر التسامح تحت دعوى المعالجة. لو تجرأ أحد واستعمل نفس المنطق للدفاع عن فيلم مليء بالعبارات القادحة في اليهود لاستعملت كل المبررات لإدانته بدعوى معاداة السامية والترويج للعنصرية، دون أن نتحدث عن من يشككون في أرقام المحرقة وما يجري لهم في الغرب من ملاحقات. والحقيقة أن مثل هذا التوجه يسقط لاعتبارات عدة: - ليس من شرط الرسالة السينمائية أو الإبداعية أو الإعلامية وهي تبرز الظواهر المختلة في المجتمع أن تنزلق إلى مواقع الرذالة والبذاءة فيه، فالواقعية لم تكن في يوم من الأيام تعني لا في الحقل الفني ولا السينمائي ولا الإعلامي التماهي مع الظواهر المرضية في المجتمع، وإنما تملك الرسالة الإعلامية والفنية والإبداعية القدرة على التعبير على الواقع دون أن تضطر لأن تكون مستلبة بخطاب ولغة ومنطق الظواهر المختلة في المجتمع، لأن دورها لا يقتصر فقط على تصوير هذا الواقع بظواهره المريضة، وإنما هو المساهمة في تقديم رؤيتها للإصلاح. - إن الظواهر المرضية والمختلة في المجتمع كثيرة، لا تنحصر فقط في الجانب اللاأخلاقي، وإنما هناك قضايا أخرى لا أظن أن صاحب افتتاحية نيشان يتفق على ضرورة التسامح معها، من قبيل إهانة المرأة والتمييز ضدها والكراهية لليهود والمسيحيين، والتي ساهمت عصور الانحطاط في تغذية منظومتنا الثقافية بها ضدا على مقاصد الشرع ومفاهيمه المستنيرة، فهل يكون مقبولا من الرسالة السينمائية أن تبرز بجرأة ووضوح هذا الجزء المريض من ثقافتنا، وهل يجرؤ صاحب افتتاحية نيشان على الإشادة ببعض هذه التعبيرات التي يختزنها الجانب المريض من المجتمع بدعوى التسامح والتعايش، أم أن ذلك يعتبر من الاستثناءات التي تخرج عن أصول نظريته. نحن نتساءل لو أن فيلما ذهب هذا المنحى، وقامت الطائفة اليهودية بالتدخل لاعتبار أن ما في هذا الفيلم أو ذاك يمس بها وبأسس التعايش والتسامح المجتمعي المغربي، فأي تسامح وتعايش سندافع عنه: التعايش والتسامح مع الجانب الصحي في المجتمع أم الجانب المرضي فيه. - لكل مجتمعه جانبه المريض فيه، وإنما دور النخبة المثقفة والواعية بشتى تعابيرها الفنية والإعلامية والإبداعية والعلمية أن تقوم بدورها في الرفع من مستوى وعي المجتمع حتى يبلغ أعلى درجة الاستواء النفسي، ولا يمكن أن يقبل عاقل أن تتحول النخبة إلى عكس هذا الدور، وتكون أداة من أدوات الارتكاس إلى التعبير عن أمراض المجتمع، فدور النخبة أن تعي واقعها بكل اختلالاته، وأن تسهم بدورها بحسب اختصاصها في تقديم مساهمتها في إصلاح المجتمع وتقويم اختلالاته. - لقد صدق كاتب الافتتاحية عندما نقل عن جهور المتفرجين من أن الفيلم تجاوز كثيرا حدوده، لكن لم يقع الانتباه لدلالات ذلك، وأولاها أن العرض الفاضح والمستفز والمفرط للجوانب الساقطة في المجتمع يتحول إلى ترويج لها، وهذا الأخير يجعل هذه الإنتاجات فنية أو غيرها أداة للتطبيع مع هذا السقوط، أما ادعاء علالجه بالصدمة فليس سوى وهم. - وأخيرا، مادامت المجلة دعت المجتمع لفتح النقاش، وقامت بالمماهاة بين نموذج الفيلم وبين خطها التحريري، فإن هناك قضايا كثيرة تعتبر من ميزات المجتمعات العربية ومنها المغرب، وهي لا تنتمي بالضرورة إلى الجانب الساقط في المجتمع : كالعفة والتدين والحياء والأخلاق وغيرها من القيم الإسلامية الأصيلة، لكن المشكلة هي أن الخط التحريري لكل من نيشان وتيل كيل القائم على تقديم المغرب كما هو حسب ما جاء في الافتتاحية، لا يتسامح معها بل ويلتمس كل الشواهد والاعتبارات للطعن فيها وإبراز المتمسكين بها في أسوأ صورة، وهو الوجه المناقض لهذا التوجه.