اكتسبت القناعة بحصول تغيير قادم في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط درجة متقدمة من الإجماع بالمنطقة عززها انتخاب المرشح الديموقراطي باراك أوباما رئيسا، إلا أن الخلاف حول مدى ومجالات هذا التغيير بقي عالقا ودون حسم، ليس لغياب وضوح برنامجي عند الرئيس المنتخب، أو لافتقاده للمصداقية المطلوبة لإنجاح سياسته الخارجية في المنطقة. بل لوجود إرث معقد ومركب تم فيه تجريب سياسات كثيرة ومتناقضة أورثت نزعة انعزالية وجعلت من توقع وجود عصا سحرية لإحداث تغييرات شاملة وممتدة لمختلف سياسات أمريكا مسألة حالمة، فما السبيل لتجاوز هذا التناقض بين مطالب التغيير العالية ومخلفات إرث إدارة بوش الثقيلة؟تمثل حالة السياسة الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية المعتدلة نموذجا جليا لهذا التناقض، ذلك أن الأمل في تغيير فعلي لهذه السياسة يصطدم بإرث معقد، يعطي الانطباع بفشل الخيارات التي جربت ويعزز من خيار التجاهل في التعامل معها، هذا بالرغم من أن تقدم سياسات أمريكا في المنطقة مشروط بتجاوز حالة من المراوحة بين الإقدام والإحجام عن التعاطي الإيجابي مع الأحزاب الإسلامية المعتدلة. والواقع أن الفشل ارتبط بثلاث عوامل، الأول تمثل في افتقاد سياسة بوش الإبن للمصداقية، بفعل إسرافها البارز في سلوك منطق المعايير المزدوجة في تحديد مواقفها من تطورات المنطقة، وتناقض أقوالها مع أفعالها، والتي برزت بجلاء في موضوعي النزاع العربي الإسرائيلي والموقف من حماس، وفي لبنان وسوريا والموقف من حزب الله، والتي عرفت انقلابا مفضوحا على أجندة نشر الديموقراطية في السنتين الاخيرتين من ولاية إدارة بوش، فضلا عن دور القرار الأحادي والمفتقد للشرعية في العدوان على العراق واحتلاله في تقديم نموذج حي للسياسة الأمريكية، حيث أعطى دليلا على أنها تقدم بديلا هو اقرب للفوضى المدمرة من أن أي شيء آخر، كما أنها تبحث عن تابعين لا عن شركاء، ولعل في الاستقالات المتعددة التي عرفها منصب المسؤول عن الديبلوماسية العامة في الخارجية الأمريكية أكبر دليل على مأزق المصداقية. أما العامل الثاني فنجده في الارتهان الفج لرؤية إيديولوجية أحادية صنع نواتها تيار المحافظين الجدد وافتقدت للدعم داخل أمريكا فبالأحرى خارجها، وهي الرؤية التي شكلت النقيض الكلي للرؤية البراغماتية الفجة أيضا لمرحلة كلينتون، والتي أنتجت سياسات وظفت واستغلت وبإفراط شعارات الديموقراطية والإصلاح لمصلحة أولويات أخرى في المنطقة، وجعلت منها خطابا بدون ترجمة فعلية، فجاءت إدارة بوش لتقدم نقيضها تحت شعارات الفوضى الخلاقة والحرية، لكن خلفها كانت هناك رهانات تغيير الأنظمة وتناقضات القيم، بحيث أن قضية نشر الديموقراطية لم تكن سوى واجهة ما اعتبرته دوائر حربا للأفكار لكسب العقول والقلوب، وليس ارتباطا مباشرا بالقيم الديموقراطية وما تفرضه من قبول بالاختلاف ونبذ للانغلاق، حيث كان المحصلة تعميق القناعة بوجود مشروع هيمني متعجرف للولايات المتحدة في المنطقة، يفرض على تيارات هذه الأخيرة مقاومته أولا . وإلى جانب عاملي المصداقية المفقودة والرؤية الإيديولوجية المنغلقة، كان هناك غموض السياسة العملية بفعل تعارض أولويات السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط والتي تبتدئ من أمن إسرائيل وتنتهي بنشر الديموقراطية، مرورا بتأمين تدفق النفط وحماية الأنظمة الحليفة ومكافحة الإرهاب وفتح الأسواق والديبلوماسية العامة، مما جعل السياسة الأمريكية بدون حلفاء فعليين وحول إنجازاتها إلى نقط معزولة بدون أثر كبير، وأجهض المشاريع المعلنة في مهدها مثل ما حصل مع مشروع منتدى المستقبل رغم الإصرار الشكلي على استمرار مؤسساته، ووضع أهدافا جوهرية على الرف مثل الوصول إلى إحداث منطقة للتجارة الحرة بين أمريكا والشرق الأوسط، وهو التعارض الذي انعكس على الموقف الأمريكي العام وجعله مرتهنا لمدى التقدم في المواقف الأخرى. يبدو من الجلي إذا، أن مستقبل سياسات أمريكا في ظل إدارة أوباما المقبلة مشروط بتجاوز فعلي للأعطاب الثلاث الآنفة، وهو ما نجد مؤشراته الأولية في الرصيد الذي راكمه الرئيس المنتخب يوم الرابع من نونبر يوفر له قدر معتبرا لإعادة بناء المصداقية، والتحرر من الانغلاق الإديولوجي والتقدم لبناء سياسة واضحة ومنسجمة، خاصة من حيث إعلانه عن حوار مع العالم الإسلامي، وإعلان عزمه عن انتهاج سياسة محددة لإنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، وإعلائه من خيار الحوار والتفاوض المباشر مع إيران، بالرغم من بقاء قدر من الغموض إزاء سياسته المستقبلية حول النزاع العربي- الإسرائيلي، والتي سيكون مطالبا فيها بانتهاج سياسة عادلة متوازنة فيه، في هذه الحالة سنكون إزاء عناصر تشجع على توقع صفحة جديدة في سياسات الإدارة الأمريكية تجاه الأحزاب الإسلامية، خاصة وأن حصيلة الانكماش في قضية الديموقراطية في السنتين الأخيرتين ليست هي الأخرى مشجعة للمضي في نفس الاتجاه. لقد كان لنتائج الانتخابات المصرية وبعدها الفلسطينية قبل حوالي السنتين أبلغ الأثر في إحداث انعطاف جذري في هذه السياسة الامريكية تجاه الأحزاب الإسلامية، وولدت حالة من الرقابة الصارمة للكونغريس باعتباره شريكا في السياسة الخارجية إزاء أي قدر من الانفتاح، لكن ما هي الحصيلة اليوم؟ الجواب قطعا سلبي، والدليل الأبرز عند متابعة السياسة الأمريكية هو أن استقرار لبنان ارتبط بالتفاهم المحلي مع حزب الله، والحصار على الشعب الفلسطيني لم يؤد إلى إسقاط حماس بل تم تشجيع مصر على فتح مسار للتهدئة، والسعي لاندماج سياسي للسنة بالعراق واحتواء المقاومة فرض قدرا كبيرا من الانفتاح على جزء كبير من قواعدها، كما أن أفغانستان تعرف هي الأخرى رضوخ عمليا لسياسة محلية في التفاوض مع طالبان واعتبار خيار الإدماج السياسي لهم هو الحل الممكن، وهو ما يعني أن سياسة أمريكا الانكماشية في موضوع الديموقراطية لم تكن حلا، لكن أي عودة لها على النمط الكلينتوني لعقد التسعينيات لن يكون هو الآخر حلا، مادامت موازين القوى المحلية في المنطقة عرفت تغييرات كبيرة، أدت لربط رهان الإصلاح السياسي بالانفتاح على الأحزاب الإسلامية.وأثناء ذلك تم تسويق سياسة تربط نشر الديموقراطية بمسبقاتها في التعليم والمجتمع المدني والإعلام والتعددية الحزبية ويؤجل أي اختبار انتخابي لها خشية وصول حاملي سياسات معادية لأمريكا للحكم، حيث ثبت اليوم - أي بعد سنتين- أن ذلك مجرد وهم كبير، وللأسف نلحظ أن دوائر قريبة من الرئيس المنتخب تردد هذا الموقف، مما يحد من المبالغة في توقع طي سريع لصفحة الماضي وبناء صفحة جديدة. ليس من حل أمام إدارة أوباما القادمة سوى الانخراط في حوار عميق مع الكونغريس، للتأسيس لمراجعة تدريجية لكن عميقة لسياسة أمريكا في المنطقة، فكما أن الشعب الأمريكي متطلع للتغيير فكذلك شعوب المنطقة وقواها الصاعدة.