من الصعب على المراقب المعني بتحولات الإعلام أن يمر مرور الكرام على قرار صحيفة +كريستيان ساينس مونيتور؛ الأميركية (تصدر منذ مئة عام) التحول إلى صحيفة إلكترونية بعدما هبطت مبيعاتها إلى 58 ألف نسخة، والاكتفاء بنسخة أسبوعية على هيئة مجلة تصدر يوم الأحد. من المؤكد أن ما جرى للصحيفة المذكورة سينسحب لاحقاً على معظم الصحف في العالم بمرور الوقت. وفي حين كان جدل الصحف والصحافة الورقية قد اندلع عشية ظهور الفضائيات قبل أكثر من 10 سنوات، ثم تصاعد مع مطلع القرن الجديد، فقد ثبت أن الفضائيات لم تقلل على نحو كبير من أهمية الصحافة المكتوبة، وإن أثرت عليها على نحو من الأنحاء، لكن التحول الآخر الذي أثّر وسيواصل التأثير على الصحف الورقية هو الإنترنت، وتطور الصحافة الإلكترونية. ما بدأ في أميركا مع الصحيفة المشار إليها، سينتقل بالتدريج إلى صحف ومن ثم دول أخرى مع سهولة وصول خدمة الإنترنت بالسرعة الكافية وبالكلفة المعقولة إلى مختلف شرائح المجتمع، الأمر الذي لم يحدث إلى الآن في معظم الدول العربية التي لا تزال كلفة وصول خدمة الإنترنت إلى البيوت فيها أغلى من الغرب قياساً بالدخل لأسباب كثيرة، منها الضرائب وقلة المنافسة. في غضون سنوات قليلة سيكون الإنترنت متوفراً في الغالبية الساحقة من البيوت، وبكلفة معقولة، وسرعة جيدة قياساً بما هو عليه الحال هذه الأيام، وإن بدا أن بعض الدول العربية، لاسيما النفطية قد وفرت هذه الخدمة، من دون أن يضرب ذلك سوق الصحف، الأمر الذي يعود ابتداءً للوفرة المالية، ومن ثم للإعلان الذي لا يتوفر في مواقع الصحف على الشبكة المعلوماتية، والذي يتمتع بسوق كبيرة في مجتمع الاستهلاك الخليجي. في تقديري أن زبائن الصحف الورقية المعنيين بالخبر هم الذي سيكفون بمرور الوقت عن شراء الصحف، بينما سيستمر في شرائها أولئك الذي يهمهم الإعلان، وإذا ما حلت هذه المشكلة، بعد إدراك المعلنين للواقع الجديد، ومن ثم اشتراطهم وضع إعلاناتهم في موقع الصحيفة على الإنترنت أو توجههم نحو الإعلان في المواقع الشعبية، فإن ذلك سيساهم في خسارة الفئة المشار إليها وتحول معظم الناس إلى قراءة الصحف عبر مواقعها وليس عبر الورق، وهو ما سيفرض على الصحف تطوير مواقعها الإلكترونية على نحو يجذب القراء، الأمر الذي لن يحدث من دون مواكبة الخبر بشكل مستمر. في هذه الأجواء سيزداد الطلب على الصحافيين والكتاب والمحللين، وبخاصة الصحافيين الذي سيكون على الصحف أن تزيد من أعدادهم حتى تواكب الأخبار بشكل دائم، وإن قللت بعد ذلك من مصاريف أخرى ذات صلة بإصدار الصحيفة الورقية في حال قررت وقفها، لكن بقاءها سيزيد العبء أكثر مما يقلله. بمرور الوقت ستصبح مواقع الصحف الإلكترونية أشبه بالمواقع الإخبارية (أكثرها يكتفي حالياً بنسخ الصفحات على الموقع)، وستزداد حدة المنافسة بين المواقع، الأمر الذي سيحسن الخدمة المقدمة للجمهور. قبل دخول عالم الإنترنت لم يكن بوسع القارئ الاطلاع على أكثر من صحيفة أو اثنتين، بينما بوسعه اليوم أن يقرأ ما يسمح به وقته من الصحف والمواقع بشتى ألوانها، وصار إذا انقطع الإنترنت في بيته يحس كما لو أنه انقطع عن العالم، لاسيما إذا كان من الذين يراسلون ويستقبلون ويصنعون المدونات أو يستخدمون الفيس بوك والماسينجر، إلى غير ذلك من الآليات التي تتطور وتزداد بمرور الوقت. هكذا يزداد كساد الصحف الورقية، لكن الصحافيين يزدادون رواجاً، ومعهم المواقع الإلكترونية التي ستتفوق حتى على الفضائيات التي ستتأثر هي الأخرى بالتطور الجديد، لاسيما أن القارئ هنا (وحتى المشاهد كما في موقع يوتيوب مثلاً) ليس سلبياً كما هو حاله في الفضائيات والصحف، بل يمكن أن يكون فاعلاً، سواء أنشأ مدونة، أم وضع رأيه وتعليقه على الأخبار والتحليلات والمشاهد المتلفزة. لا أحد يمكنه التكهن على وجه الدقة بالتطورات القادمة، لكن الأكيد أن عالم الورق سيبدأ في التراجع، وإن بقي له محبوه ومريدوه، أكان عبر الصحف، أم الكتب التي تبدو أفضل حين تكون بين اليدين وليس نصاً على الش