اوصى ديننا الحنيف بالنساء خيرا، وحظ على حسن معاشرتهن، وجعل القوامة للرجال وحثهم على العدل في تعاملهم مع النساء، لكن رغم ذلك فالعديد من الأزواج خاصة منهم المهاجرين، حكمت عليهم الظروف الاجتماعية وفرقت بينهم وبين أهليهم، بل أصبحوا أسيرين في بلاد الغربة، وانقطعت أخبارهم عن أقرب الناس إليهم؛ أبناؤهم وزوجاتهم، وذويهم، وهذا هو حال (ج.ر) التي التقتها التجديد في مدينة جرادة، وحكت ذكرى أليمة ماتزال تتكبد آلامها، هجرها الزوج منذ أزيد من 16 سنة، وتركها في سن مبكرة مسؤولة عن طفل. الصدمة حلمت (ج.ر) البالغة من العمر 38 سنة، بمدينة جرادة، بحياة زوجية سعيدة، خاصة أن الزوج يقيم في إيطاليا، وككل بنات حيها، فقد كانت الهجرة وسيلة لعيش حياة أفضل. بعد أقل من سنة من زواجها، وعدها الزوج بإعداد أوراق التجمع العائلي، لكن في ذات الوقت، اكتشفت أنه محترف في مجال الهجرة، وخاصة في إعداد رخص السفر للنساء الأخريات، مقابل مبالغ مالية، انتظرت أن يحين يوم الوفاء بالوعد، الشيء الذي لم يتحقق. رزقت بطفل في حملها الأول، فجاء الزوج مسرعا ليحتفل بأسرته الصغيرة، لكن مدة إقامته لم تتجاوز الشهر الواحد ليختفي بعد ذلك اثنا عشرة سنة على التوالي، وانقطعت كل الأخبار عن الزوجة، التي يئست من الأمر، وقررت العودة إلى منزل والديها، علها تنعم ببعض الأمان، وعل الدفء العائلي يخفف عنها هول الصدمة التي تلقتها من الزوج. الأم المعيلة عادت (ج.ر) إلى منزل والديها، الذي يتكون من أب مريض وأخ يعاني من داء الكلي، تستلزم معه مصاريف التصفية، مبالغ كبيرة، ومدخول الأب لا يتحمل كل تلك المصاريف، خاصة مع البطالة التي يعانيها أبناؤه، ومع الغلاء المتزايد للأسعار. الأب كان يعمل في منجم الفحم الذي تم إغلاقه بمدينة جرادة، ويحاول تعويض ابنته شيئا من الحرمان الذي عانته مع الزوج وعائلته، إلا أن يده قصيرة وعينه بصير، فاضطرت (ج.ر) إلى تعلم حرفة الخياطة، ونجحت في المشروع، وبدأت تكافح ليل نهار، إلا أن تمكنت من توفير المصاريف اللازمة لها ولابنها، بل أحيانا تساعد في مصاريف الأسرة. يأتي الدخول المدرسي، فتجتهد (ج.ر) في العمل، لكي تتمكن من توفير مصاريف الدراسة لابنها، ورغم أن الجد من الأب يملك مكتبة قريبة من الحي، إلا أنه لم يفكر يوما في منح الطفل ولو قلم حبر، بل إنه لا يسأل عن احتياجاته بشكل نهائي. حكت (ج.ر) لـالتجديد بصوت متقطع يعتصره الألم، وقالت أنها نجحت في إعالة ابنها، لكن مع ذلك تبقى احتياجاته كثيرة، أهمها التوازن النفسي الذي فقده الصغير منذ نعومة أظافره. مأساة امرأة تعيش (ج.ر) معاناة داخلية، وأخرى مع المجتمع، فأفراده لا يرحمون أحدا كما قالت، خاصة أن ابنها يكبر يوما بعد يوم، وأصبح يعي الأشياء من حوله أكثر من ذي قبل، يسأله والدته أحيانا كثيرة أسئلة عن والده تعجز عن الإجابة عليها، بل أنه يأتي كل يوم شاكيا للأم المسكينة، معايرة زملائه وأبناء الحي له بأنه ابن شارع، بل يتهمونه أنه لا أب له وأن الجد الذي يدعي وجوده في نفس الحي حكاية مصطنعة فحسب، فتزيد الأمور من مأساة المرأة، وبحكم كونها أكبر أفراد عائلتها، فهي تحمل إضافة إلى همها وابنها، هم إخوتها ووالدها المريض، لأن الإخوة لا أحد منهم يستطيع إعالة نفسه، والأخ المتعلم الذي كانت الأسرة تعقد عليه الكثير من الآمال، ليساعد في مصروف البيت، ظل عاطلا عن العمل لسنوات، ورغم انضمامه إلى جمعية المعطلين بجرادة وكثرة النضالات التي خاضها، إلا أنه ما يزال يعجز عن توفير مصروفه الشخصي، ومازال الأب يمثل المعيل الوحيد للأسرة. وكانت سعادة (ج.ر)، بالمداخيل التي تدرها من حرفة الخياطة، كافية لتعطيها الشعور بالأمان وبالقدرة على الاستقلالية، غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، ففي الصيف الماضي أصيبت (ج.ر) بمرض و بتشنجات مستمرة على مستوى القلب، مما حال بينها وبين قدرتها على ممارسة الخياطة، فاعتزلت العمل، وانضافت وابنها إلى قائمة الإخوة الذي يعيلهم الأب، مما زاد من شدة معاناتها. حلم الهجرة بعد غياب زاد عن الإثنا عشرة سنة، ظهر الزوج من جديد، وكان الحدث بمثابة حلم للصغير، الذي ما إن رأى والده لأول مرة حتى هرع إلى زملائه في الدراسة، مفندا كل ما يدعونه من أنه ابن شارع، فلم تكف الصغير فرحته باللقاء الأول لوالده الذي لم يعرف عنه غير الاسم، وبعض الصور التي ظلت والدته محتفظة بها، بل إن سعادته اكتملت حينما استطاع أن يثبت لزملائه أن والده ما يزال حيا يرزق، وأنه ثمرة علاقة شريفة. غير أن ما يحز في نفس الطفل حسب الأم، أن ذلك اللقاء الذي جمعه بوالده لم يطل وانتهى بمجموعة من الوعود حول التجمع العائلي، ما جعل الصغير يخطط لحياة أخرى، فأهمل دراسته بدعوى أن إيطاليا نظامها الدراسي مختلف عن المغرب، ولم يعد من شغل له غير الحلم بالحياة الجديدة التي سيوفرها له والده، وبأنه أخيرا سيتمكن من العيش الكريم، في حضن والدين، وفي بلد أوربي يتيح لكل المهاجرين إليه الفرصة في الثراء. تدهورت النتائج الدراسية للصغير، وطال غياب الأب إلى أن انقطعت أخباره بشكل نهائي، لكن الصغير لم يفقد الأمل في الهجرة، رغم فقده للأمل في وعود والده. تحايل على القانون لم تستسلم (ج.ر)، ورفعت شكوى النفقة ضد الزوج، الغائب، والذي تدعي عائلته أن يمثل الجالية المغربية في أوربا، وأضافت الزوجة أنه دخل المغرب سنة ,2004 بعد أن قضت المحكمة بالنفقة سنة ,1998 لكنها اعتاد التحايل على القانون، وربما يكون ذلك سببا رئيسا في عدم تطبيق الحكم عليه، وعللت الزوجة قولها بأنه اعتاد تهجير الناس، وخاصة منهم النساء، بعقود عمل وعقود زواج مزورة، والنتيجة من كل ذلك أنه حكم على نفسه بغربة قاسية، يدفع ثمنها هو وزوجته وابنه الوحيد. ورغم أنه يعرف حق زوجته عليه، كما صرحت بذلك (ج.ر)، ويعاملها بالحسنى حين زياراته للمغرب قبل الهجران، إلا أن شيئا غريبا في الأمر ما لم تفهم حيثياته، وما بقي غامضا بالنسبة إليها وابنها. حق الزوجة تقول (ج.ر) أن كل ما تطلبه هو أن يعدل الزوج معها، وأن تعيش حقها كما فرضه عليها الإسلام، خاصة أنها لم تطلق، ولم تتمتع بحقها كزوجة، بعيدا في ذلك كل البعد عن قول الله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان. وعن قوله صلى الله عليه وسلم: رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته، فانّ الله عزّ وجل قد ملّكه ناصيتها، وجعله القيّم عليها