في ظل التغيرات التي طرأت على المجتمع، خرجت المرأة للعمل، وأضافت إلى عملها داخل المنزل عملا آخر خارجه، وأصبحت بذلك تنافس الرجال في العديد من المجالات. وقد برهنت على مدى التاريخ عن قدرتها على تحمل المسؤوليات والسير بالمجتمع في طريق النمو والنجاح غير أن ضغوطات العمل واحتكاكها بعالم جديد لم تكن تعرف عنه شيئا، كان له كبير الأثر على شخصيتها وعلى نفسيتها أيضا. فوجدت نفسها مضطرة أن تساير الركب، أو أن تستسلم وتعود أدراجها لتعتزل العمل خارج المنزل، أو تتكيف مع ظروف العمل، لكنها في كل الحالات تحمل داخل أعماقها عالما مليئا بالتناقضات؛ بين ما ترغب فيه، وما يفرضه عليها الواقع. بين التي تذوب في واقع العمل، وبين التي تتخلى عنه من كثرة الضغوطات التي تعيشها، وبين التي تحاول التأقلم مع الواقع، وتقاوم تلك الضغوط؛ استقت التجديد تجارب بعض النساء مع العمل في لقاءات خاصة. مرارة العمل رجاء من مدينة مراكش، عمرها 25 سنة، تعمل مولدة في أحد المستوصفات القروية، حكت لـ التجديد عن مرارة الواقع الذي وجدته في العمل. إضافة إلى المناوبة الليلية التي تفتقد إلى أدنى شروط السلامة والأمن، وجدت رجاء نفسها مضطرة إلى دخول عالم آخر؛ عالم الاحتكاكات الدائمة مع زملائها في العمل، والكلمات المستفزة والجارحة التي تتلقاها من بعض زائري المستوصف. بعد مرور شهرين من العمل والمعاناة النفسية، وجدت رجاء نفسها مضطرة إلى تعلم وسيلة الدفاع عن النفس، وكما قالت فأفضل وسيلة تعلمتها هي الهجوم كي لا تشعر بنفسها في موقف الضعف. رجاء التي لم تغادر منزل والديها يوما إلا بعدما حصلت على وظيفة في وزارة الصحة. وظيفة جعلتها تبني أحلاما وردية حول مستقبلها في فترة التدريب، لكن ظروف التعيين وواقع العمل جعلاها تعيش في دوامة من التوترات وفقدان ضبط الأعصاب لأتفه الأسباب. بكت في أول يوم رأت فيه المنطقة التي ستبدأ فيها أول خطوات مشوارها المهني، لأنها صدمت بانعزال المستوصف بعيدا عن السكان، وعدم توفر المنطقة على رجال الأمن ولا المستوصف على حارس لا بالليل ولا بالنهار. تقول رجاء إنها تعيش ليال مرعبة خلال فترة مناوبتها، فأحيانا يطرق بابها على الثانية أو الثالثة صباحا، لكنها لا تجد من حل، سوى أن تقاوم الخوف الذي يعتريها، وتتشبت بقوة الإيمان. رغم أن قدماها لا تكادان تحملانها من شدة الخوف إلا أنها تنسى كل شيء بمجرد نجاح عملية الولادة أول فرحة لرجاء بأول مولود ولد على يدها، كانت مريرة، وفتحت عيناها على عالم آخر، وواقع لم تحسب له حسابا، حينما جاء زوج المرأة يساومها على ثمن عملية الولادة. شعرت بجرح عميق بداخلها، ولم تعرف كيف تتصرف غير الإسراع إلى غرفتها والبدء في البكاء. والتجربة علمت رجاء أن تتسلح بالقوة، وأن تتعلم وسائل الرد عن مواقفها، كي تتمكن من مسايرة الركب، إلى أن يغير الله الحال بما هو أفضل، كما قالت رجاء، التي ما تزال تحلم بالكثير. وأول أحلامها أن تتمكن من العيش بعيدا عن ضغوطات العمل لتتفرغ بشكل تام إلى أسرتها المستقبلية. بين العمل الأسري والوظيفي لم يكن وضع فاطمة؛ التي تعمل أستاذة لمادة العلوم الطبيعية؛ أفضل حالا. إذ بين ضغوطات العمل اليومي في التدريس، وما يأخذه منها من وقت داخل المنزل، من أجل تحضير الدروس. تجد فاطمة كل يوم، بعد أربع ساعات متواصلة من العمل الجاد، والشرح المضني للتلاميذ، نفسها مضطرة إلى العودة إلى المنزل، وبدء عمل آخر جديد، لا يمت بصلة إلى الأول. فتسرع في تحضير الأكل، وتفقد أحوال الطفلين، الذين لا يتجاوز عمرهما على التوالي؛ مريم 8 سنوات، وعمر 6 سنوات. ما يثير غضب فاطمة؛ هو عدم تفهم الزوج لعملها، وعدم مبادرته بالمساعدة في أي شيء، إلا في بعض الأعمال الخارجية القليلة. وكأنها آلة لا تعرف معنى التعب. تقول فاطمة؛ إن ضغط العمل الذي تمارسه، بين التدريس والمنزل، غير نفسيتها كثيرا، وأصبحت شديدة العصبية، كما إنها لم تعد تملك الصبر ولا النفس الطويل لرعاية أبنائها. تعترف فاطمة أن عمل المرأة يصنع منها شخصية قوية ظاهريا، ويمنحها مكانة مميزة داخل المجتمع، إضافة إلى أن المرأة حينما تتمتع باستقلالها المادي، فإن ذلك يشعرها بالسعادة. غير إن ضغوط العمل خارج المنزل، والعمل داخل المنزل، وعدم تفهم الزوج، كلها عوامل تضافرت وجعلت فاطمة تعيش تحت ضغط نفسي، أثر سلبا على عنايتها بأبنائها وبمردوديتها في العمل. التربية هي الأساس المرأة حينما تنتمي إلى مجال وظيفي معين، فإنها تكتسب مجموعة من التصرفات التي لم تكن راضية عنها في البداية. وهذا ما أشارت إليه الفاعلة الجمعوية المهتمة بمجال الأسرة، أسماء المودن، حيث اعتبرت أن العمل الوظيفي يشكل خطورة أخلاقية على شخصية المرأة، إذ قد يزج بها في مجموعة من التصرفات الغير أخلاقية، فتتعلم بذلك مسألة الرشوة، والنفاق الاجتماعي، كما أن العمل قد يغرس فيها أيضا روح التعالي، والأنانية، إذا لم تكن مسلحة منذ البدء بالتربية السليمة. واعتبرت أسماء، إن التربية هي أساس إنقاذ المرأة من مجموعة من المخاطر التي يعج بها المجتمع، وخاصة فضاء العمل، سيما إن لم يكن هذا الفضاء محاطا بضوابط أخلاقية. كما اعتبرت المؤذن، إن عمل المرأة الوظيفي له في نفس الوقت مجموعة من الإيجابيات، إذ يمنحها السعادة الداخلية، والإحساس بالاستقلالية، والفاعلية داخل المجتمع، لكنه في ذات الوقت؛ قد يكون سببا وراء جرها إلى اكتساب مجموعة من الآفات السلبية التي يعج بها المجتمع، سيما إن كانت تربيتها ضعيفة، وإن لم تتزود بقوة الإيمان، التي تمنحها القدرة على التكيف مع محيط العمل، دون أن تتأثر بالوضع السلبي. والمرأة حسب أسماء من المفروض أن تؤثر بأخلاقها، وإيمانها، على محيطها في العمل، ومحيطها الخارجي ككل، لا أن تتأثر هي بذلك المحيط، كي لا تدفع المجتمعات ثمن انجراف المرأة وراء السلوكات السلبية، والمنحرفة، ثمن انعدام القدوة الحسنة، التي غالبا ما تكون المرأة مطالبة بها، على اعتبار أنها مربية الأجيال ومعلمة الرجال. تغير الشخصية رهين بطبيعة العمل اعتبر رئيس قسم الطب النفسي في البيضاء الدكتور محسن بن يشو في تصريح لـ التجديد إن العمل الوظيفي يضاعف مسؤولية المرأة، فتصبح عندها بالتالي وظيفتين في آن واحد، وظيفة داخل المنزل، ووظيفة خارجه، في حين إن الرجل يحتفظ بوظيفة واحدة وهي ؛تحمل المسؤولية الخارجية فقط. وهذه الوظيفة المنوطة بالمرأة، تجعلها تعيش نوعا من التعب والإرهاق، سواء على المستوى أو الجسدي. غير أن هذه التغيرات التي تحصل على شخصية المرأة بسبب العمل تختلف حسب نوعية الوظيفة، وحسب الظروف الاجتماعية والحالة العائلية للمرأة. وهذا التغير؛ يرتبط أيضا حسب بن يشو، بالمجال الذي تزاول فيه المرأة عملها، ومن المعرف أن العمل داخل المدن الكبرى يختلف عن المدن الصغرى، فالمرأة التي تعمل في مدينة كبرى، ظروفها ليست هي نفس ظروف المرأة التي تعمل داخل مدينة صغرى. لأن المدن الكبرى تتطلب من المرأة التنقل من بيتها إلى مقر العمل، وما يستوجب ذلك من صعوبة في التنقل بين المواصلات. ومهما يكن فالمرأة التي تتحمل مسؤولية وظيفتين حسب بن يشو تعيش حالة كبيرة من الإرهاق النفسي، تسبب لها في غالب الأحيان حالة قلق وحالة اكتئاب. وطبيعة التغير الذي يقع في شخصية المرأة التي تزاول وظيفة مهنية، يرتبط أيضا بطبيعة الضغوطات التي تتعرض لها في العمل، حسب بن يشو، خاصة إن كانت تعاني مشكلة التحرش الجنسي فإن ذلك يؤثر سلبا على شخصيتها وقد يزج بها في حالة من الاكتئاب. وعلى اعتبار ما يعيشه المجتمع في عصرنا الحالي من تأزم في الوضعية الاقتصادية، فإن الكثير من النساء يلجأن إلى العمل الوظيفي، وسيلة لمواجهة تلك الصعوبات الاقتصادية. ويجتهدن في مقاومة ما يتعرضن له من تحرشات، ويحطن الضغوطات التي يتعرضن لها بالكتمان، ما يجعلهن عرضة إلى الاكتئاب، وأحيانا كثيرة إلى سرعة الانفعال أو القلق أو العصبية. والمرأة العاملة خارج البيت معرضة للتوتر أكثر من المرأة التي لا تعمل في الخارج، وهذا التوتر تختلف درجته حسب اختلاف شخصية المرأة، وحسب الظروف المحيطة بها. غير أن تأثير العمل على شخصية المرأة لا يكون دائما سلبيا بل إنه يسهم في تغيير شخصيتها بشكل إيجابي في الكثير من الحالات، حيث يمكنها من ربط علاقات على الصعيد الخارجي، ويكون لديها مردود مالي، وتتمتع بشخصية مستقلة. وتأثير نفسية المرأة بضغوطات العمل حسب بن يشو، يتوقف أيضا على طبيعة شخصيتها، ومدى قدرتها على تحمل المشاكل ومواجهة الصعوبات.