من مفاهيم التفكير الوسطي السديد مفهوم الواقعية. فعلى مستوي التصور العقدي أو الفلسفي للواقع الموضوعي نجد ثلاث تصورات كبرى. التصور الأفلاطوني الذي لا يعترف بالواقع الموضوعي كعالم حقيقي مستقل. فالعالم الحقيقي هو عالم المثل. و هو إفراط في واقعية عالم المثل و تفريط في واقعية العالم الموضوعي المادي المشاهد. و التصور الفلسفي المادي الذي ينكر أي وجود لعالم الغيب و لا يعترف إلا بعالم المادة الموضوعي. و هو إفراط و تفريط معاً. أما التصور الإسلامي للواقع المادي الموضوعي فهو الاعتراف به و الإقرار له بالوجود الموضوعي المستقل. لدرجة أن الله تعالى يقسم بموجودات هذا الكون المادي العظيم. قال تعالى: ((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)) (الشمس)، و غيرها كثير في النص القرآني. و قسم الله بشيء يعني يقينية وجوده الموضوعي. بل و سمو شأنه. لكن إقرار الإسلام بالوجود الموضوعي لعالم المادة لا يعني نكران عالم الغيب. بل بالعكس فالعقيدة الإسلامية بقدر تأكيدها على عالم المادة أو عالم الشهادة بقدر تأكيدها على الوجود الموضوعي لعالم الغيب والروح. فهي نظرة تصورية لا تفرِّط في شيء و لا تفْرِط فيه. و الإقرار بوجود الواقع المادي الموضوعي على المستوى الفكري و العقدي مهم جداً لنظريات التغيير و الإصلاح. و الواقع الموضوعي تركيب لثلاث مكونات أساسية وهي: وجود كائن حي أو جامد يتحرك في الزمان و المكان.و مفهوم الواقعية لا يقف عند الاعتراف بواقع موضوعي مستقل، بل لابد من فقه ذلك الواقع والتعرف على سننه و ضوابطه التي تحكم سيره و حركته. و هو ما نسميه بفقه الواقع.إلى هذه الحدود يمكن القول أن كل النظريات التي تقر بوجود الواقع الموضوعي تأخذ بمفهوم الواقعية. لكن في مجال التدافع من أجل التغيير أو الإصلاح لا نجد واقعية واحدة، بل ثلاث مفاهيم للواقعية: واقعية مثالية متهورة، و واقعية مستسلمة و واقعية مناضلة راشدة. والاختلاف بينها مرده لكيفية تعاملها مع مفاهيم أخرى متولدة عن مفهوم الواقعية و هي: مفهوم الطاقة الآدمية، مفهوم الاستطاعة أو الوسع، و مفهوم القابلية أو الاستعداد. قال تعالى (( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ )) إلى أن قال:(( رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) (286) البقرة. فالواقعيات الثلاث تشترك في إقرارها بالواقع الموضوعي، لكنها تستخلص نظريات في التدافع من أجل التغيير أو الإصلاح متباينة لدرجة التعارض. و الأصل في ذلك التباين أو التعارض هو اختلافها في تقدير ميزان التدافع أو ميزان الصراع الاجتماعي و الثقافي و السياسي المحلي و الدولي و التاريخي.فمن يصوغ نظرية في التغيير أو الإصلاح لا تأخذ بعين الاعتبار إلا غايات و طوبى أو أحلام المصلح أو رسالة الإصلاح ، بدون احتساب طاقة الأمة و استعدادها للإصلاح أو قابليتها للتغير. و بدون احتساب إرغامات الواقع الحي و إرادة المفسد فهو واقعي مثالي أو رومانسي. و حسب تاريخ النظريات الرومانسية في التغيير فإن جلها إن لم اقل كلها باءت بفشل ذريع. لأنها اصطدمت بسلطان الواقع العنيد. و من يصوغ نظرية في الإصلاح أو التغيير لا تأخذ بعين الاعتبار إلا إرغامات الواقع العنيد و ضعف طاقة الأمة و ضعف استعدادها للإصلاح أو التغيير و ضعف قابليتها لنظرية الإصلاح أو التغيير بعيداً عن غايات المصلح أو طوباه و أحلامه فهو واقع مفلس و واقعيته واقعية مفلسة أو مستسلمة. و علاقة الواقعية الرومانية أو المثالية بالواقعية المستسلمة هي علاقة تحالف استراتيجي حقيقي، لكنه ضمني، و علاقة تعارض شكلي و صراع لفظي علني.فالواقعية المثالية فرطت في احتساب الواقع عند صياغة نظرية التدافع، و الثانية أفرطت في احتساب الواقع العنيد عند صياغة نظريتها. و كلاهما ضالٌّ عن الاشتغال بمفهوم الواقعية السديد و هو التصور الثالث في نظرية التدافع من أجل الإصلاح و التغيير. أي نظرية الواقعية المناضلة. فهي نظرية تأخذ بمفهوم الواقعية الراشد عند التدبر و التخطيط و التنزيل للخطة. فأسلوب تدافعها يدخل في الحسبان بلا إفراط أو تفريط إرغامات الواقع العنيد، و إرادة المفسدين في الأرض و عزمهم، و تأخذ في الحساب حالة الأمة من حيث قوة أو ضعف الطاقة و الاستعداد و القابلية للإصلاح و التغيير. و تأخذ في الحسبان طوبى المصلح و مقاصده و أحلامه بلا إفراط أو تفريط. فهي تختلف عن الواقعية المثالية باحتسابها سلطان الواقع، و تختلف عن الواقعية المنغمسة في الواقع أو المفلسة باحتسابها طاقة الحلم أو الطوبى عند المصلح. فرسالة المصلح بطارية شحن للطاقة هائلة. فضخ الطاقة النفسية و الذهنية و العملية وسط الأمة عامل حاسم في الدفع بالرسالة نحو الواقع الحي أو الملموس. و هو ما تغفله الواقعية المستسلمة للأمر الواقع. كما أن الإهمال أو التراخي أو التهور بعدم احتساب سلطان الواقع في أسلوب التدافع هو بطارية شحن هائلة لضخ طاقة الإحباط و اليأس في نفوس الناس، فتشغلهم عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بشكل منتظم و منظم و دائم. تكون حصيلتها التدافعية انتصار الواقع المفلس. فالواقعية الرومانسية واقعية منكمشة عن الواقع، تخرج الواقع من رأسها. و الواقعية المفلسة واقعية منغمسة في الواقع من قنة الرأس إلى أخمس القدمين. عاجزة عن تغييره. و الواقعية الراشدة و المناضلة واقعية تخرج رأسها من الواقع لتراه و تفقهه، لا للانغماس فيه أو الانكماش عنه، و لكن لتغييره لما هم أفضل و أصلح. و الواقعية الرومانسية واقعية منغمسة في الحلم أو الطوبى أو الرسالة من قنة الرأس حتى القدمين، و الواقعية المفلسة واقعية منكمشة عن الطوبى. أما مفهوم الواقعية الراشدة للرسالة أو الطوبى أو الحلم فهو الاحتساب بلا انغماس أو انكماش. و من هنا الفلاح في التفكير و الممارسة و الحصي