كالنحلة تنط من سيارة أجرة صغيرة إلى سيارة أخرى ملبية نداءات زبنائها من السائقين، تناول هذا منديلا والآخر علبة حلوى والآخر إجابة على استفسار أو تساؤل، أو تؤتمن على سر أو وصية.. هي سيدة في ربيعها الثامن والثلاثين، معروفة عند الخاص والعام من أصحاب سيارات الأجرة الصغيرة بمدينة بني ملال هي بكل بساطة فتيحة كورتية الطاكسيات الصغيرة مع وقف التنفيذ. في الوقت الذي تشهد فيه مدينة بني ملال ندرة في السائقين تلعب فتيحة دور الوسيط بين الباحثين عن شغل السياقة وأرباب سيارات الأجرة الصغيرة، وتتدخل في النزاعات بين السائقين وهي المرأة الوحيدة في بني ملال التي تقوم بهذا الدور في عالم سيارات صغيرة يبلغ عددها حوالي 400. يتيمة ثم ربيبة غير مرغوب فيها تحكي فتيحة أنها حلت بـ ساحة الطاكسيات سنة 1991 أي لما كانت شابة في العشرين من عمرها. لجأت فتيحة إلى فضاء الطاكسيات لما أنهكت صحتها أشغال المقاهي والمحلبات والتصبين في البيوت.. قادتها ظروفها الاجتماعية قسرا إلى البحث عن لقمة العيش أينما كانت. بعد وفاة أمها وهي طفلة في السنة الأولى من عمرها تزوج الأب بسيدة لمساعدته على تربية أبنائه الخمسة منهم فتيحة الرضيعة، إلا أن زوجة الأب لم يكن لها لا عطف الأم ولا حنانها، فعاملت ربيباتها بقسوة أقرب إلى الجحيم تقول فتيحة بمرارة وهي تتذكر هذه الطفولة العصيبة التي أفقدتها زهرة شبابها بالزج بها في غياهب الأشغال الشاقة واستغلالها من قبل أرباب وربات البيوت. تستيقظ فتيحة على الساعة 5 صباحا لقضاء بعض أشغال بيتها المتواضع الذي اكترته بالمدينة القديمة بمبلغ 450 درهما. تجلب الماء من ساقية الحي - هم آخر ينضاف إليها في طيات كتاب حياتها المليء بالمتاعب، وتتناول ما قسم الله لها من فطور لتبدأ يوم عملها باكرا بقارعة شارع محمد الخامس. رأس مال فتيحة سعة صدرها وذاكرتها القوية وحبها للناس أكثر مما هو حفنة سنتيمات ثمن المناديل وعلب الحلوى والعلك الذي تبيعه للزبائن. لا تكل من الاستجابة إلى كل الدعوات إلى أن يحين وقت الغذاء فتجلب وجبة خفيفة كاسكروط لايتعدى ثمنه 2 دراهم بالرغم من الجوع الذي يقطع أمعاءها بسبب الجهد الذي بذلته. المرشد لأصحاب الطاكسيات أصبحت فتيحة الدليل والمرشد لأصحاب الطاكسيات الصغيرة إذ تدل هذا السائق الباحث عن العمل على رب سيارة أجرة يبحث عن سائق، وتنبه السائق المبتدئ إلى قواعد العمل الأساسية. لديها جميع هواتف أصحاب السيارات والسائقين، تعرفهم فتيحة معرفة دقيقة كما تعرف الأم أبناءها واحدا واحدا، ولا تقف معرفتها للعاملين في القطاع بل تعرف حتى مشاكلهم الشخصية. فلكم من مرة تدخلت فتيحة لدى أرباب وسائقي سيارات الأجرة من الصنف الثاني لجمع تبرعات لسائق طريح الفراش أو مصاب بخطب من الخطوب، أو لإصلاح ذات البين بين شريكين في خصام، تجمع فتيحة بين المساعدة الاجتماعية، و الكورتية الحدقة، والأم الحنون. مرت من أمامها إحدى الفتيات المتشردات فسلمت قائلة السلام فتيحة لاباس؟ فعلقت فتيحة تسلم علي الجميع من الشمكار إلى المهني إلى الموظف المحترم فلم تكد تنه فتيحة تعليقها حتى ناداها باسمها شرطي كان ينظم المرور بجانبها وطلب منها منديلا مؤكدا ادعاءها. سيدة عليمة بمبادئ الميكانيكا نعم سيدة بداخلها سيدات ورجال إنها عليمة بمبادئ الميكانيكا تقول فتيحة كم من مرة تدخلت لاسعاف سائق مبتدء حيران أمام عطب تقني لسيارته فتشير عليه آمرة أمر المعلمة افتح الكابو وتفحص خيط المانو هل هو تابث في مكانه أم لا وعند التأكد من الوضعية تملي عليه فتيحة الحل المناسب، وهكذا تعطي النصيحة للمبتدئين بالعناية قبل كل شيء بأوراق السيارة والتأكد من وجود الماء وزيت المحرك. وتتدخل للبعض الآخر في موقف السائقين لإيجاد شغل، تستمع لمشاكل العاطلين من السائقين وهموم المرضى منهم. بل لا تقوى فتيحة أن تبقى في منئى من الأحداث التي تقع حواليها، فتتدخل لفك النزاعات وإصلاح ذات البين وتهدئة روع الغاضبين. بدن مريض وروح نشيطة ووحدة قاتلة بالرغم من النشاط والحيوية التي تظهر على حركات فتيحة وقد تكاد تخدع العديد ممن لا يعرفها فجسم فتيحة سقيم بفرط مخلفات سنوات شظف العيش التي قضتها متنقلة من شغل شاق إلى شغل أشق. ويزيد من حال سقمها الوحدة القاسية، فهي بالإضافة إلى كونها عازبة إلا أنها لا تفكر في الزواج بتاتا. تعاني من جفاء الأهل والأحباب من إخوتها على الخصوص الذين تمنعهم تكاليف معيشتهم ومسؤوليات أبنائهم من التواصل معها. رغبتها مصدر للعيش الكريم حتى الموت فقط. لم تبد فتيحة رغبة أو طمعا في أي شيء، كل همها، وهي تحس بضعف بدنها بسبب المرض، أن تحصل على مصدر عيش كريم يؤمن لها الكفاف والعفاف حتى تلقى ربها. وفي انتظار ذلك تحفظ فتيحة في قمطر طاولتها الصغيرة أرقام السائقين وفي صدرها معاناة سنوات عمرها القاسية وعينيها على الشارع الرئيسي وأذنيها على أصوات طالبيها.