وحيدا بين جدران الغرفة يناجي همومه وأحزانه التي لا تنتهي، يستعين بكرسيه المتنقل لكي يقضي حاجياته الضرورية. حياة صعبة يعيشها عبد الإله الرميلي المزداد سنة 1960 بمدينة سيدي قاسم منذ أن قرر القدر أن ينحو به مسارا آخر مختلفا في حياته. عاش عبد الإله طفولة عادية كباقي رفقاء دربه، لكنه شعر دائما بتميز عنهم منذ أن بدأ يعي أمور الحياة. امتلاك والده لمقاولة للبناء ورغبته الشديدة في التميز جعله ينشط منذ الصغر ويهوى العالم الحرفي والصناعات بمختلف أنواعها، تعلم مجموعة من الحرف كالميكانيك، الكهرباء، الرسم، التجارة، النجارة، الإلكترونيك الخياطة الرسم النحث الديكور، واليوم يطلق عنانه للخيال في إظهار تفوقه وموهبته في فن آخر يطمح أن يكون في مميزا عن باقي الفنانين الذين عرفهم التاريخ. في زيارة خاصة قامت بها التجديد يسرد عبد الإله الرميلي أهم المحطات البارزة في مسار حياته. حياة جديدة بعد الحادث امتلك المال في الصغر وفقده في الكبر بعد أن أصبح في أمس الحاجة إلى من يمده ولو بكوب ماء. شكلت سنة 1995 سنة تغيير حقيقي في مسار حياة عبد الإله، وكما قال سبحان مبدل الأحوال، إذ كان على متن شاحنته الخاصة التي امتلكها خلال مساره العملي، أثناء تعرضه لحادثة سير مفاجئة كادت أن تودي بحياته، وخلفت وراءها شخصا آخر كل ما عاد يطلبه هو أن يجد من يرعاه إلى أن يتوفاه القدر. الرميلي لم يكن من بين المحظوظين رغم الآمال التي كان يرسمها في طريقه للبحث عن الغنى والتميز قبل الحادث. إذ بعد الحادث وجد نفسه وحيدا، يتجرع تلك الأيام الخوالي ويتحسر على وضعه الحالي. منذ سنة 1995 إلى يومنا الحالي لم يحصل الرميلي على أي تعويض عن الحادثة التي جعلته مقعدا وفي أمس الحاجة للآخرين. وهذا سؤال يؤرقه، إذ استنكر في تصريح لـ التجديد كيف أنه لم يستفد من أي شيء رغم أن شاحنته كانت مرخصة ويدفع عنها الضريبة بصفة مستمرة؟ انزوى إلى غرفته الصغيرة وجعل من الرمال والأحجار والصباغة ملاذه في التعبير عما يخالجه وفي ملء وقت الفراغ الذي يقتله في كل لحظة وساعة. عالم الخاص يعيش في عالم مختلف اليوم لم يمر يوما في خياله أنه سيعيشه، لكن هذا العالم الجديد شكل نقطة تميز أخرى في حياة عبد الاله، إذ رغم شعور الوحدة القاتل إلا أنه يأنس بتلك الرمال التي يصنع منها كل ما يروج بخاطره ويعيش في عالم من الحرية الفكرية دون قيود. بجسده النحيل يتمدد على سريره ويضع اللوحة أمامه ثم ينطلق إلى عالم الإبداع اللامتناهي ويعبر عن اسمه بالرمال. يقول عبد الإله أنه اسم على مسمى، فلا نوع فني آخر يستهويه أو يشبع موهبته الفنية سوى تلك الرمال التي يقوم بجهد جهيد من أجل استجلابها من مختلف مناطق المغرب وخاصة منها المناطق الساحلية، حبه للشاطئ لم يمت ولم يبعده عنه عجزه عن المسير إليه، لكنه ظل يعيش في أعماقه ويشم رائحة رماله التي لا يتردد كل مرة في طلب من يستقدمها إليه. يقول الرميلي إن الناس لم ينصفوه، رغم أنه قام بمحاولات عديدة لإشهار موهبته وتكسير حاجز الوحدة الذي يقيده، ومن أجل ذلك عرض لوحاته الفنية في أحد معارض مدينة سيدي قاسم، لكن لم يبع خلال ذلك المعرض شيئا، له أزيد من أربعين لوحة، لكن طيلة مسيرته الفنية لم يبع سوى لوحة واحدة، مما يبرز طابع الجفاء الحاصل بينه وبين الذين تستهويهم الأعمال الفنية. معاناة مضاعفة منذ تعرضه لحادث السير الذي نجم عنه شلل في جزئه السفلي، تغيرت حياته بأكملها، فبعد أن كان يعيل العائلة ويساهم بمدخول وفير في المنزل أصبح عالة على أفرادها، هاجره أصدقاؤه وأناس كانوا من أشد المخلصين له، وانصرف أفراد المنزل كل إلى حال سبيله، لاهثا وراء اللقمة، فلم يبق له غير والدته التي ترعاه وتمده بكل ما يحتاج إليه من ضروريات العيش، إلى أن شاء القدر أن ترقد الأم أيضا في المستشفى، ويبقى عبد الإله وحيدا في المنزل الكبير، ذو السلالم التي حكمت عليه بعدم مغادرته إلا في حظور من يحمله عليها. أما إن احتاج شيئا من الطعام أو أي شيء آخر، فلا سبيل لديه إلا الاستعانة بكرسيه المتنقل والوقوف في النافذة مناديا أحد المحسنين ليلبي له حاجته. يبلغ عبد الإله من العمر اليوم ثمانية وأربعين عاما، ويعيش في أشد الحاجة لمن يمد له يد العون ويقوم بحاجياته، لكن الفقر وعدم إنصاف عالم الفن لمواهبه، جعله يعيش وحيدا ويعجز حتى عن التفكير في الزواج وإيجاد من يؤنسه في حياته، لأنه كما قال: واش نزيدها حتى هي تصرف عليها أمي؟ في ظل غياب عناية خاصة بالمعاق وفي ظل غياب أي دعم مادي أو معنوي يتساءل الرميلي أين هي حقوق هذا الإنسان المعاق؟، الذي ما إن غابت والدته عن المنزل حتى بقي وحيدا يخشى أن لا يسمع أحد عنه شيئا إن أصابه سوء. بعد أن حاول في بداية مشواره الفني إظهار موهبته للجميع وبعد أن كان قد صمم على التكيف مع الإعاقة وأن يخلق لنفسه عالما مختلف ومتميزا، صدم من عدم تفاعل الآخرين معه، وعدم إحساسهم بقيمة لوحاته الفنية التي تشكل ليس فقط موهبة لهذا الفنان بل أيضا جزءا لا يتجزأ منه. غير أن حلم عبد الإله الكبير هو أن يخلف شيئا متميزا تذكره به الأجيال اللاحقة، ويطمح أن يترك بصمته في مدينته سيدي قاسم، بنحث أكبر حصان أو أكبر أسد في العالم، لأنه كما قال،اللي عاش لراسو يموت صغير، واللي عاش لراسو وللناس يعيش أطول.