أثارني تعليق أحد الإخوة المتتبعين لهذا العمود والوارد في الموقع الإلكتروني للحركة، حينما نبه إلى أنه بالإضافة إلى الفئة التي تحن إلى الماضي وترتهن إليه، فهناك فئة أخرى ظهرت ليس لها حنين لا إلى الماضي و لا إلى الحاضر همها الوحيد هو النقد من أجل النقد. ولذلك رأيت أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن هذه الفئة التي لا تتقن سوى لغة المعاتبة واللوم في غياب القيام بالواجب. والحقيقة أن ضعف ثقافة القيام بالواجب، والبحث عن مشجب يعلق عليه الإنسان عجزه أو إخفاقه، يكاد يكون مظهرا من مظاهر ثقافتنا المجتمعية؛ فترى الذي يتأخر عن موعد السفر يحمل المسؤولية للقطار الذي فاته ، وتجد السكان يحملون مسؤولية نظافة الشارع العام للدولة، ولا يجتهدون في حسن تدبير فضائهم المشترك في العمارة أو الحي ،وغيرها من الأمثلة التي تعكس هذه الثقافة أيضا وسط الجمعيات والأحزاب والمنظمات. إن عدم الأخذ بمبدأ القيام بالواجب وضعف ثقافة المسؤولية، يسقط الإنسان في خطاب الشكوى من التهميش، والاشتغال بمنطق النقد من أجل النقد، حيث تكثر الدعاوى حاملة تساؤلات عن تهميش الشباب، وعدم إشراك المفكرين، أو إبعاد العلماء وإقصاء النساء..، و حينما تنظر إلى واقع هؤلاء وأدوارهم، تجدهم خارج دائرة التحدي، حيث غياب الحضور الميداني الفعال والمبادرات المبدعة، ولأن ثقافة الواجب لم تأخذ نصيبا من تكوينهم الفكري والتربوي فإنهم ينتعشون فقط عبر توظيف خطاب التهميش، وهو ما يدل على أن أصحاب هذا المسلك في المعاتبة والشكاية، يبحثون عن شرعية الناقد أو الغاضب،أو المدافع عن الأقليات، وهي شرعية إن لم تلازمها مبادرات تنبني على القيام بالواجب ستكون أوهاما وقولا بلا فعل. إن الشرعية الحقيقية هي المبنية على قوله تعالى: :وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. وحتى داخل فئة العاملين فإن المفاضلة تتم بين صاحب العمل الحسن وصاحب العمل الأحسن، مصداقا لقوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور}، فخلق الموت والحياة في القرآن، إنما هي لأجل اختبار الناس وإذكاء روح المنافسة بينهم، فيجنّدون كافة طاقاتهم ويجعلون حياتهم حافلة بالعمل والسعي، ويحوّلون سلبياتهم إلى الإيجابيات، ويجعلون هدفهم هو البناء. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن حديثنا لا يتوجه إلى أصحاب النقد الرسالي، أي إلى الذين ينتقدون الحركة، وينبهون قيادتها لضرورة العناية ببعض القضايا الأساسية، وفي نفس الآن يقدمون المبادرات ويساهمون في تقويم الوضع وتطوير المؤسسة، مع الاستمرار في القيام بواجباتهم ومهامهم التنظيمية والوظيفية. وعلى اعتبار أن هناك رفضا أو تعثرا في استقبال الأفكار الجديدة أو في إدماج الفئات التي تحس بالتهميش، فإن الحل ليس في الانسحاب أو الاقتصار على خطاب المظلومية، بل المطلوب هو الاستمرار في القيام بالواجب لإعطاء مصداقية وقوة للمطالبة بالحق وقد كان المفكر الإسلامي مالك بن نبي محقا حينما قال: إن الحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان. إن الانسحاب أو الاقتصار على خطاب المظلومية، قد يدل إما على ضعف فكرة من يطالب بالتغيير ويدعي الإتيان بالجديد ، أو على عدم قدرته على التواصل والإقناع، ذلك أن الإتيان بالجديد ليس هو تسجيل موقف في لحظة محددة من التاريخ بل هو مسار مركب، يتطلب من صاحبه جهدا استثنائيا يقوم على أعمال منها: 1 بناء الفكرة التجديدية والإقناع بها، وتأصيلها وتعزيز براهينها وحججها وتطوير القدرة على عرضها وتنزيلها. 2 - الإيمان العميق بالفكرة، والصبر في التعاطي مع ردود الفعل التي قد تكون رافضة لها في البداية، والاستماتة في الدفاع عنها بأخلاق المجددين، لأن من المسلمات أن كل جديد يكون في البداية باعثا على التوجس والاحتياط. 3 n التحرك بمنطق الرسالية الذي يجعل الإنسان منخرطا ومبادرا وحريصا على الانجاز، وليس بمنطق الوظيفة الذي يمكن فيه الانسحاب بسهولة، والاستسلام والتراجع إلى الوراء للوهلة الأولى، بدعوى أن البنية التنظيمية أو الحركية لا تحتمل الأفكار المجددة. وبكلمة جامعة، فإن العمل الصالح يحتاج للإيمان القوي منطلقا وإلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر خلقا ، فالعمل المتواصل والقيام بالواجب هو المدخل السليم لتصل مبادرات التصحيح والتطوير والتجديد إلى مداها الإجرائي.