أضحت ظاهرة انصراف الشباب عن الزواج من الظواهر اللافتة للنظر لتزايد نسبتها بين الرجال كما النساء، ولهذه الظاهرة تداعيات خطيرة على المجتمع، دينيا وأخلاقيا واقتصاديا... لأن الزواج هو العامل الأساس للاستقرار الأسري والاجتماعي، ولأن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية المعول عليها للقيام بدور التنشئة الحضارية وهي العمود الفقري للمجتمع، وهي حلقة الوصل بينه وبين الأفراد، وهي الوسط الأول الذي ينشأ فيه الطفل ويكتسب سلوكاته التي تحكم وتنظم علاقته بالآخرين. وبعبارة أخرى، فإن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية المؤهلة للقيام بدور التنشئة الحضارية. ظاهرة عالمية والطبيعي في الإنسان أن يميل بفطرته إلى أن يظفر ببيت وزوجة وذرية، ومن غير الطبيعي أن يبقى عازبا، فالعزوف عن الزواج يعني عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي، ويعني كذلك إشاعة السلوكات المنحرفة، لذلك لا بد من التوقف عند هذه الظاهرة ودراسة أسبابها ومسبباتها ونتائجها وتداعياتها، بغية التوصل إلى بعض المقترحات للحد منها ولتشجيع الشباب على الإقبال على الزواج. ولا بد أن نسجل أن هذه الظاهرة أضحت ظاهرة عالمية لا تنحصر في مجتمع دون آخر، فقد أورد موقع جريدة لوموند الإلكتروني مثلا في شهر نونبر الماضي أن نسبة الزواج بفرنسا في انخفاض، حيث سجلت سنة 2003 نقصا في الزواج بلغ 6000 حالة مقارنة مع السنة التي قبلها، وهو ما يمثل تراجعا بنسبة 2,1 بالمائة، كما أن معدل سن زواج الشاب الفرنسي في 2004 هو 30,4 سنة، أي بزيادة 1,7 سنة عن سنة ,1994 أما سن زواج الفتاة الفرنسية فقد بلغ سنة 2004 ما قدره 28,3 سنة أي بزيادة بنسبة 1,5 سنة عن سنة .1994 وفي المملكة العربية السعودية، أكدت دراسة أعدتها وزارة التخطيط السعودية حول العنوسة، ونشرها موقع أمان الإلكتروني في أبريل الماضي، ارتفاع عدد النساء غير المتزوجات في المجتمع السعودي إلى أزيد من مليون ونصف مليون فتاة تبلغ من العمر 28 سنة، وحسب دراسة أنجزها الدكتور إبراهيم الجوير، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، يرى 60 بالمائة من الجامعيين أن المغالاة في تكاليف الزواج هي العائق الرئيس أمام زواجهم، فيما يرى 75 بالمائة أن تأخير الزواج إلى حين توفر ظروفه يؤدي في نهاية المطاف إلى العزوف عنه، واعتبر 18 بالمائة عدم توفر السكن غير الملائم أحد الأسباب الرئيسية للتأخر في سن الزواج. أما بالنسبة للمغرب، فقد أظهرت دراسة حديثة لمديرية الإحصاء أن 35,8 بالمائة من نساء المغرب عازبات و31,5بالمائة متزوجات و9,6 أرامل و3,2مطلقات، كما أن معدل سن الزواج في ارتفاع مستمر، حيث بلغ 31 سنة عند الرجال و26,7عند النساء، وتعد البطالة وانعدام السكن من أهم الأسباب التي تصرف الشباب عن التفكير في الزواج إضافة إلى العوامل النفسية والاجتماعية. وفي لبنان، بين إحصاء نشره موقع أمان الإلكتروني أن الرجل اللبناني لم يعد يتزوج قبل الثلاثين من عمره، والفتاة لم تعد تتزوج قبل سن ,27 وذلك بسبب التعلم، بالإضافة إلى تفكك الروابط المقدسة بين أفراد الأسرة وسيطرة الذاتية والأنانية، مما غير النظرة إلى الزواج وشجع على العزوف عنه. دور الفضائيات والأنترنت في العزوف عن الزواج وهكذا يمكن أن نتتبع الإحصائيات في باقي دول المعمور لنجد أن هذه الظاهرة عامة وعالمية ومعولمة، ويزيدها حدة ما نعيشه اليوم من ثورة إلكترونية وتكنولوجية وفضائية ومعلوماتية واتصالاتية أصبحت تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في حياتنا. لقد اخترقت العولمة الحدود وكرست أنماطا إعلامية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأصبحنا أمام مئات الفضائيات وآلاف المواقع الإلكترونية، والإمكانات المتاحة للاتصال والتلقي عبر الأنترنت، تراجع معها وخفت دور المؤسسات التقليدية الاجتماعية في تشكيل العقلية والشخصية وتوارث القيم والتأثير في الجهاز المفاهيمي، مثل مؤسسة الأسرة والمسجد والمدرسة ومؤسسات التأطير المدني والسياسي، إذ أصبح الشباب يتأثر أكثر بما يتلقاه بشكل سلس وسهل وسريع وممتع، من خلال الأفلام والبرامج والمسلسلات التي تقدمها الفضائيات أو من خلال مواقع الأنترنت. وما دمنا نحن المسلمين نؤمن بأن الله تعالى خلق الإنسان وميزه بالعقل والإرادة وكلفه بعمارة الأرض وسخر له ما في السموات وما في الأرض، فإن ما توصلت إليه البشرية من تطور معلوماتي واتصالاتي هي أدوات ووسائل سخرها الله لنا وعلينا استعمالها في الخير والبناء. تساهم القنوات الفضائية في تشكيل عقلية المشاهد وميولاته واختياراته وسلوكه، وتؤثر في موضوع العزوف عن الزواج أو الإقبال عليه، فنجد بعض القنوات تقدم برامج تعتني بالأسرة وترغب في بنائها وتنميتها وتشجع على الزواج (نموذج قناة اقرأ وقناة سمارت واي) وبالمقابل هناك قنوات تهدم صرح الأسرة وتحطم أخلاق الشباب بإشهار الأجساد النسائية ونشر الانحلال والتشجيع على الخلاعة، مما يساهم في العزوف عن الزواج، إن لم نقل يساهم حتى في هدم الأسر القائمة، وذلك بالترويج لشكل ونوع معين من الأجساد النسائية تساهم المساحيق وأدوات التجميل في تنميقه، فيتطلع الشباب من ثم إلى نموذج لا يوجد على أرض الواقع وينتهي بالعزوف عن الزواج. الإعلام الوطني ومسؤولية التشجيع على الزواج وفي وطننا المغرب، للقناتين الوطنيتين تأثير لا يستهان به على الشباب واختياراته، وقد كلفت وزارة الاتصال شركة متخصصة في الإحصائيات الخاصة بوسائل الإعلام لتحديد القنوات الأكثر مشاهدة من لدن المغاربة، وكانت النتيجة أن القناتين الوطنيتين تحتلان الصدارة بنسبة 62 بالمائة ووصلت إلى 80 بالمائة خلال شهر رمضان، وتليهما قناة الجزيرة الرياضية، وهذه النسب تحتم علينا أن نوجه إعلامنا الوطني نحو تقديم نماذج أسرية ناجحة وإنتاج برامج تشجع على الزواج. أما شبكة الأنترنت العنكبوتية فأصبحت تفرض علينا نفسها فرضا، وأصبح وجودها ملازما لوجودنا، وتجعل العالم قرية صغيرة والرؤى متقاربة والأفكار والتصورات سريعة التداول والتبادل، مما سهل عولمة السلوكات والقيم، وتبين بعض الإحصائيات أن عدد مستخدمي هذه الشبكة يفوق 400 مليون شخص، يتصفحون حوالي 5,1 بليون صفحة، يرتفع عددها بمليون صفحة يوميا، وعلى المستوى العربي، بلغ عدد مستخدمي الأنترنت العرب خلال سنوات 2001 و2002 و2003 تزايدا بمعدل يتراوح بين 90 بالمائة و100 بالمائة سنويا، ووصل نهاية 2002 إلى عشرة ملايين مستخدم عربي، أما عدد المواقع العربية فما يزال هزيلا حيث لا تتعدى نسبتها 2 في الألف من مجموع المواقع الإلكترونية لعالم عربي عدد سكانه 5 بالمائة من مجموع سكان العالم. وثقافة الأنترنت هي ثقافة تجذب المراهقين الذين بداخلهم رغبة جامحة لمعرفة كل جديد بلا تحفظ، بل إن أكثر مستخدمي هذه الشبكة هم من المراهقين، والكثير منهم لا يحسنون استعمالها. وتعتبر غرف الدردشة أكثر استعمالا، بالإضافة إلى مواقع الجنس والخلاعة، ثم مواقع الألعاب، فنوادي النقاش ثم عمليات البحث، وهذه المواقع الإلكترونية لها بالطبع تأثير مباشر على سلوك الشباب وتعامله مع موضوع الزواج، إذ بالإضافة إلى التأثير على السلوكات والقيم، هناك تأثير مباشر عبر موضوع الزواج عن طريق الأنترنت، وهي طريقة أصبحت بديلة عن أساليب تقليدية في الزواج، ووسيلة سهلة للهجرة حرفت الزواج عن مقاصده الكبرى التي حددتها الشريعة الإسلامية. والخلاصة أن تقنيات الاتصال الجديدة، وعلى رأسها الفضائيات وشبكة الأنترنت، تؤثر بشكل مباشر في نظرة الشباب إلى الزواج، لذلك وجب سن قوانين تساعد على مراقبة المواقع الإلكترونية، بالإضافة إلى تقوية الجانب التربوي عند الشباب، كما يجب تشجيع الإنتاج الإذاعي والتلفزي الوطني الهادف ودعم البرامج الاجتماعية التي تحث الشباب على الهمة العالية والإقبال على تأسيس أسر، والمشاركة في التنمية، وكذا إنشاء قناة تربوية تعليمية مغربية وتخصيص جائزة سنوية لأحسن إنتاج إعلامي يحث على الإقبال على الزواج. فتكون لذلك نتائج نفسية طيبة وإيجابية، أما الآن فقد فشت العلاقات الجنسية بشكل كبير بين الشباب، وأصبحت متاحة بشكل لم يعودوا معه بحاجة إلى التفكير في الزواج. نسبة الزواج أيضا تأثرت بالسلوكات الاجتماعية، التي هي مجموعة من الاختيارات المبنية على عوامل، منها ماهو راجع إلى ذات الإنسان، ومنها ماهو راجع إلى عوامل خارجية، مما يجعل السلوكات قناعات تتحكم فيها اختيارات شخصية وعوامل خارجية، وهو ما يجعل لكل سلوك بدائل، وهكذا تراجعت نسبة الزواج في مجتمعنا وكثر العزوف عنه لأنه أصبحت هناك بدائل له في إشباع الغريزة الجنسية، ومن طبيعة الإنسان أنه دائما يبحث عن البدائل. لقد أصبحت لدينا سوق للدعارة فيها عرض وطلب شكلت بديلا مثاليا لكل أولئك الذين لا يرون في الزواج إلا عبئا وخلية للأزمات. وقد ساهمت العولمة كذلك في العزوف عن الزواج، إذ ظهر معها ما يسمى بعولمة السلوكات، حيث أصبحت هناك سوق دولية للسلوكات والمفاهيم نتبضع منها سلوكاتنا ونظرتنا للحياة. وما دام المراهق عندنا يجد بديلا عن الزواج، فإنه لم يعد يرى أهمية له،ولم يعد يرى فيه الحل الوحيد ليعيش حياته الجنسية، كما أن المجتمع لم يعد ينظر إلى العزوبة وإلى الطلاق بتلك النظرة المزدرية والمستنكرة، بل تم التطبيع مع الممارسات الجنسية غير الشرعية، وبالمقابل أصبح التمثل الذي في أذهان شبابنا عن الزواج أنه مجرد مشاكل وتبعات ومسؤوليات لا تنتهي، وطبعا مادام هذا الشباب يجد البدائل السهلة وغير المكلفة، فلماذا سيفكر في الزواج، الذي أصبح عنده مرادفا للمشاكل والصراعات والتكاليف المادية التي لا تنتهي؟ وهكذا لم يعد المراهق يرى في الزواج مؤسسة مثالية، لأن الجنس أصبح مادة مستهلكة تباع وتشترى، ومع انتشار القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الإباحية، لم يعد الشباب بحاجة إلى انتظار ليلة الزواج ليكتشفوا ماهية الجنس، ولا لأن يتخيلوا العمليات الجنسية، لأن لديهم بدائل سهلة وميسرة، وهذا الواقع جعل الكثيرين يتساءلون هل مازال الزواج هو الحل الوحيد للعيش مع الجنس الآخر وإنجاب الأطفال وممارسة الحياة الجنسية؟ كما أن العديد منهم أصبحوا يتساءلون أيضا هل سيطيقون العيش مع شريك جنسي وحيد عقودا طويلة في إطار الزواج؟