الإمام أحمد بن حنبل نشأ الإمام أحمد يتيما، وقامت على تربيته أمه ببغداد التي كانت تعج بمختلف أنواع المعارف والفنون، ويكثر فيها القراء والفقهاء والمحدثون والمتصوفة وعلماء اللغة والفلاسفة والحكماء، فكان مبرزا على أقرانه بحفظ السنة النبوية والذب عنها، تصدى لبدعة القولبخلق القرآن وكان علي بن المديني يقول:إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة(1). بدأ بطلب الحديث ثم اتجه إلى فقه الرأي الذي كان يمثله فقه أبي يوسف، وتلقى عن الإمام الشافعي، وطلب فقه الصحابة، وخصص لكل صحابي مسندا قائما بذاته. ومعلوم أن دراسة فقههم يرهف عقل الراوي المستيقظ ويعطيه ملكة فقهية عميقة، وإذا أضيف إلى ذلك أنه التقى بضابط علم الاستنباط الإمام الشافعي، فإنه بلا ريب يكون فقيها عريقا في فقه السنة، لا يمكن في آرائه أن يخرج عن سمت الشريعة(2). الإمام ابن حزم وهذا ابن حزم الذي نشأ في قرطبة حاضرة الإسلام يومذاك (3)، والتي كانت تضم في ثناياها: العلم والمعرفة والعمران والحضارة، ونشأ في بيت له سلطان، وكان ابن حزم يعتز بأنه طلب العلم لا يبغي به جاها ولا مالا.ومهدت له أسرته طريق العلم فتذوقه صغيرا وحلا مذاقه في نفسه كبيرا فانصرف إليه. وعرفت عنه حدة: فسرت في بعض جوانبها بعوامل أسرية حيث تغيرت حالها لظروف سياسية، وحلت بها شدة بدلت نعيمها بؤسا، وأخرى نفسية تولدت نتيجة مرض وعلة، وكذا عامل الإثارة من الوسط والمحيط.. يقول ابن حزم: ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي واحتدم خاطري وحمى فكري وتهيج نشاطي ،فكان ذلك سببا إلى تواليف عظيمة النفع،ولولا استثارتهم ساكني ،واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف(4)، ولعله يقصد فقهاء المالكية وجو المناظرات والجدل الذي خاض غماره، وكان صوتا نشازا في وسط قد استقر فيه المذهب، فاجتهد في نبذ التقليد والاستقلال بالرأي الباحث عن الدليل. فتميز بشخصية متحمسة مندفعة وكان مناظرا عنيدا لا يرحم خصمه ،ملك ناصية فن الجدل سواء في الكلام أو في الشريعة، ونشأ على التعلق بالسنة .وما يؤخذ عليه أنه رجل عصامي، لم يلازم الشيوخ، ويرى الكثيرون أن من أعظم البلية تشييخ الصحيفة (5)، ولهذا فرح الناس بانتصار الباجي عليه وافحامه واصلاح ما أحدثه من بدع(6). ومهما يكن اختلافنا مع بعض اجتهاداته فلا يمكن أن ينكر منصف جهاده لاستمرار خط الاجتهاد ونبذ التقليد.. هذا الجهاد الذي سيستمر بعده ويشتد كلما رسخ التقليد، وشنع المقلدة على كل من يريد الخروج على القاعدة والبيئة المألوفة، فلا غرابة أن ينتاب الخوف الكثيرين فيحجموا عن إعلانهم الاجتهاد .يقول الشيخ عز الدين بن جماعة : إحالة أهل زماننا وجود المجتهد يصدر عن جبن ما ،وإلا فكثيرا ما يكون القائلون لذلك من المجتهدين(7)،إنه -من غير شك -إرهاب البيئة عندما تكون في غير صالح الاجتهاد. أهمية البيئة العلمية ورغم أهمية جميع عوامل: البيئة والأسرة والمؤسسات والمرافق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وقوة التفاعل بينها، فإن البيئة العلمية يبقى لها التأثير المباشر في تكوين ملكة الاجتهاد بحسب ما يسودها من تنوع وتفتح وحرية وحوار، وبحسب القائمين عليها وما يتوفر فيهم من صفات علمية ومنهجية وأخلاقية، وما لديهم من استقلالية وتحمس للبوادر الاجتهادية وتشجيع وتسامح وعلاقات دافئة وقبول للخلاف والرأي الآخر. 1 الخطيب البغدادي تاريخ بغداد ج 5 ص .184 2 أبو زهرة تاريخ المذاهب الفقهية ج2.287 3 مر بي القطار سريعا من محطتها صيف 1406ه 1985م، فحملت معي حجرا من أرضها، ولم أملك غير الدموع مما رأيت أثناء العبور من تغير معالمها، ومن الصلبان تغطي فضاءها، وتساءلت في حسرة وألم ممزوج بالأمل: متى يعود الإسلام لرحابها؟ 4 أبو زهرة تاريخ المذاهب الفقهيةج2.367 5 صالح محمد صغير مقبل محمد بن علي الشوكاني وجهوده التربويةص:.772 6 عبد المجيد تركي مناظرات في أصول الشريعة بين ابن حزم والباجيص: 62 .63 7 السيوطي الرد على من أخلد إلى الأرض ..ص:.741