في هذ الحوار يتحدث الصادق المهدي عن الضعف الكبير الذي أصيب به الفقه السياسي الإسلامي بسبب الاستبداد والطغيان السياسي، وبسبب إغلاق باب الاجتهاد، ويرى أن الديمقراطية باعتبارها أداة لتصريف الاختلاف وتدبير التعدد، قد أنتجت مؤسسات وآليات قادرة على تحقيق مبادئ الإسلام السياسية، ويرى أن تجديد الخطاب السياسي الإسلامي، وتدعيم النفس الديمقراطي فيه أصبح ضرورة ملحة لمواجهة الطغيان السياسي والهيمنة الخارجية وفك الارتباط بينهما، ومواجهة معضلة الغلو التي صارت تستقوي في واقع الانسداد السياسي والبؤس الاجتماعي، ولا يفوت الصادق المهدي أن يذكر بأهمية التصوف وضرورته، لكن ضمن رؤية تمزج المعاني الروحية بالأدوار الإصلاحية الاجتماعية. وقد ألمح المفكر السوداني في هذا الحوار إلى تساوي البشر في قضية الإلهام، وأن المتصوف الشيخ لا يملك ضمن الرؤية الصوفية سلطة إضافية يصادر من خلالها آراء الناس والمريدين، فإبداء الرأي ينبغي أن يخضع لاختبار الفكرة والنظر في منطقها الداخلي وسبر أدلتها، ولا ينبغي أن تلعب وسائل أخرى مثل الرؤية والإلهام دورا سلطويا وقهريا في إقناع الناس وإلزامهم بتصور معين. في ظل التحولات الكبرى التي نعيشها بسبب العولمة، يطرح بشكل قوي سؤال تجديد الخطاب الديني، خصوصا وأن هناك دعاوى صارت تطرح الديمقراطية بديلا عن كل الخصوصيات الدينية والثقاقية، فهل تتعايش الديمقراطية وحقوق الإنسان مع الإسلام؟ أم المطلوب هو عملية تجديد الخطاب الديني بما يتطلبه تحولات عصر العولمة؟ هذا السؤال كبير، والإسلام في اعتقادي صالح لكل زمان ومكان، وهو في ما يخص القضايا الاجتماعية جد متطور، بمعنى أن هناك ثابت ومتغير،الثابت هم العقائد والأخلاق والعبادات، فهذه القضايا ثابتة، ، لكن المعاملات الاقتصادية والمالية والديبلوماسية هي متحركة، بمعنى أنه ليس في الإسلام شكل لدولة ولا لاقتصاد ولا لعلاقات خارجية واحد، هناك مبادئ عامة. فيما يتعلق بالسياسة هناك مبادئ الشورى والعدالة والجماعة، هذه المبادئ أنا أسميها فرائض الإسلام السياسية، وهناك مبادئ اقتصادية أيضا : تكافل اجتماعي، تحريم الربا، العدالة في توزيع الثروة....نحن كمسلمين مطالبون بأن نجتهد في كل ظرف تاريخي لنحدد ما هو النظام السياسي الذي يحقق أهداف مبادئ الإسلام السياسية، وما هو النظام الاقتصادي الذي يحقق أهداف الإسلام الاقتصادية وهلم جرا.. عندما ننظر كمسلمين الآن لنظام الحكم نجد أن هناك أسسا للحكم الراشد هي : المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون. هذه مبادئ تعتبر أسسا للحكم الراشد، والديمقراطية تسعى لتحقيقها، فهي مفردات لها مرابط في مبادئ الإسلام السياسية. الديمقراطية ومبادئ الإسلام تتفق في هذه النقاط، الفرق هو في أمرين: الديمقراطية أقامت مؤسسات لتحقيق هذه الأهداف، أقامت آليات وهذا غير موجود في الإسلام. الإسلام يضع سقفا لما يمكن أن تفعله الإرادة الشعبية، ولكن هذا ليس بدعا، فما من نظام سياسي ديمقراطي إلا ويمارس الديمقراطية بسقوف. السقوف تضعها الدساتير، ولا يمكن أن تمارس النظام الديمقراطي في شكل من الفوضى. إذن نحن مطالبون كمسلمين أن نطلع على نصوص الوحي، وأن نستنبط منها ما يتناسب مع هذه المعاني في إقامة الحكم الراشد. وليس صحيحا أننا فقط نطبق المنطق الصوري الذي يقوم على القياس والإجماع، وإنما هناك العقل والمصلحة ومصالح السياسة الشرعية، وهذه كلها تمكننا من تطوير النصوص لعلاج المشكلات، وهذا نفسه يحثنا عليه الدين، لأن الله تعالى يقول:الذين إذا ذكروا بآياتنا لم يخروا عليها صما وعميانا فنحن مطالبون باستخدام عقلنا وحكمتنا لاستنهاض مبادئ الإسلام لحل مشكلاتنا السياسية ومشكلاتنا الاقتصادية. العولمة مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاجتماعي في العالم، أتاحها وسمح بوجودها حرية في السوق، ووجود إمكانية الاتصالات والمواصلات التي جعلت أي جزء في العالم يستطيع أن يتصل بالجزء الآخر بلمح البصر. هذا التركيب بين حرية السوق وحرية وسرعة الاتصالات هو الذي أدى إلى ظاهرة العولمة. لا شك أبدا أن هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم كأنما العالم الآخر في فراغ. فكل منطقة في العالم لها خصوصياتها الثقافية، فنحن كمسلمين ينبغي أن نرى كيف يمكن أن نوفق بين العالم الحر وما يقتضيه من إمكانيات تنموية ومراعاة الخصوصيات، خصوصا وأن واحدا من مظاهر العولمة أنها بنفس القدر الذي أتاحت فيه الحرية أتاحت أيضا فيه بهيمنة الثقافة والمصالح الأمريكية. وهذا يعني أننا نقبل العولمة ولكن على أساس أنها يجب ألا تمنعنا من حراسة وحماية خصوصياتنا الثقافية والدينية بفهم مستنير وليس بفهم ماضوي، وكيف ينبغي لهذه العولمة أن تكون عولمة موضوعية وليس مطية لمصالح أمريكية ولهيمنة أمريكية. وهذا كله يعني أننا محتاجون إلى قيادات تمثلنا من دسم العولمة وتعيننا على الاحتماء من سمها. يلاحظ على الفقه السياسي الإسلامي ضمور كبير، فبينما نجحت التجربة الديمقراطية الغربية في أن تنتج مؤسساتها السياسية، ظل الفقه السياسي الإسلامي يزكي السياسة السلطانية ولا ينظر لاجتهاد سياسي منفتح، ما هو تصوركم لمعالم الفقه السياسي التجديدي؟ الحقيقة أن سبب هذا الضمور والضعف في الفقه السياسي في منطقتنا العربية الإسلامية هو الطغيان، فالدول الإسلامية التاريخية كانت في الغالب استبدادية ديكتاتورية، الدولة العباسية والدولة الأموية والدولة الصفوية والدولة المغولية في الهند. هذه الدول كانت دولا استبدادية، ومن مقتضيات الاستبداد منع أي نوع من الاجتهاد. الإمام مالك ضرب لأنه أفتى بعدم جواز طلاق المكره، لأن هذه المقولة تنفي وتمنع بيعة الإكراه بمقتضى الدلالة والقياس. نحن إذن نجب أن نقول: سبب التخلف في فقهنا السياسي الإسلامي مرجعه وجود الاستبداد، ثم ثانيا قفل باب الاجتهاد والتجديد في تطوير الفقه السياسي الإسلامي، والأمران معا خاطئان تماما، فلا بد من حرية ولا بد من اجتهاد، إذ في جو الحرية والاجتهاد سنتمكن من تطوير أحكام الفقه السياسي بالصورة التي توفق بين الأصل والعصر، والتي تمكننا من أن نكون مسلمين وعصريين في آن واحدا ، وفي رأيي هذا مطلب ضروري وتحدي يواجه القيادات الإسلامية المعاصرة. ورد في تدخلكم أن ظاهرة التطرف والغلو غزت العالم العربي والإسلامي، وذكرتم أن من أسبابها الانسداد السياسي، كيف تقاربون هذه الظاهرة وما هي رؤيتكم للمعالجة؟ لا شك أن هناك مجموعة من الأسباب، ولا شك أن الغلو الديني له أسباب كثيرة، هناك أولا انسداد الهيمنة الدولية التي تقف وراء الطغيان الوطني، وهي التي تقف وراء الظلم، ولذلك قرروا أن يعاقبوها بأنشطة الاحتجاج العنيف. في رأيي القضية صحيحة، يعني قضية الغضب على الطغيان الداخلي والغضب على الدعم الخارجي له والغضب على المظالم في كل المناطق ككشمير وفلسطين والعراق وغيرها، هذا الغضب مشروع، لكن الطريقة الني دافع بها هؤلاء الغلاة تجعلهم المحامين الخطأ عن القضية الصحيحة، لأن هذا النوع من المحاماة يأتي بنتائج عكسية، وكما قال العز بن عبد السلام: كل أمر يأتي بنقيض مقصده فهو باطل فالعلاج لظاهرة الغلو هو أن نوجد للقضية المدافعين غير المغالين، وان يتمكنوا من أن يحققوا إنجازات في سبيل العدالة داخل أوطاننا ورفع الظلم الخارجي وفك الائتلاف القائم بين الطغيان الداخلي والهيمنة الخارجية. في تجربتكم السياسية الطويلة، عشتم مراحل الانقسام والتشرذم العربي، لكن اليوم يمكن الحديث عن مبادرات واتجاهات لجمع شمل الأطياف السياسية بشتى توجهاتها قوميين واشتراكيين وإسلاميين في وفاق تاريخي من أجل الإصلاح ، كيف تنظرون لمثل هذه المحاولات؟ نعم في مرحلة سابقة كانت الفتنة قائمة والخلاف قائما ما بين القوى الصفوة والنخب العربية إسلامية وقومية واشتراكية، كانوا مشتبكين في صراعات واسعة جدا. الأمر الجديد الآن أنهم كلهم صاروا يدركون أن برامجهم هذه الشرط الوحيد لتحقيقها هو الديمقراطية. الشرط الأول، فبدون هذه الديمقراطية تسقط كل هذه الدعاوى، لأنه ليس لديها وسائل للتعبير عن نفسها، ثانيا وهذا مهم، كلهم صاروا يدركون خطر الهيمنة الأمريكية، فصارت السيادة الوطنية والإرادة الوطنية في خطر، ولذلك اتحدوا لمواجهة هذا الخطر، ثالثا: فهم جميعا يعانون من خطر اختطاف الغلاة، لأن الغلاة ضدهم جميعا مهما كانت الرؤية، فالغلاة يتبنون رؤية خارج التاريخ، فإذن هناك عوامل أساسية. الآن تبين أن هناك ضرورة للديمقراطية لتحقيق لأية واحدة من الأهداف المنشودة سواء كانت التنمية أو العدالة أو التحديث أو التأصيل الإسلامي أو سمها ما شئت، أيا كانت هذه الأهداف، فالشرط لتحقيقها هو الخيار الديمقراطي. ثانيا الاستشعار بأن هناك خطرا على الإرادة الوطنية نفسها بسبب الهيمنة الخارجية، والسبب الثالث أن هناك خطرا على كل عطاء عقلاني بسبب تيارات الغلو. فهذه العوامل في رأيي جمعت أو جعلت كل الاجتهادات التي انقسم عليها صف النخبة العربية القومية والاشتراكية والإسلامية يتحد لمواجهة هذه المخاطر. في الساحة العربية والإسلامية يلاحظ المراقبون الوجود والموقع الوازن للتيار الإسلامي، ما هو تقييمكم لأداء هذا التيار؟ انظر أخي، هناك حقيقتان موضوعيتان: الحقيقة الأولى: إن أي تهميش للدين مستحيل، لأنه تهميش لواقع روحي وخلقي واجتماعي، ولذلك حيثما وجد التهميش الدين جاءت ردة الفعل العنيفة. حدث هذا مثلا في تونس وتركيا. خذ مثلا تركيا، لا شك أن كمال أتاتورك يمثل أكثر نظرة منهجية لإبعاد الدين عن الحياة، النتيجة أنه بعد سبعين سنة تأكد وجود ردة فعل إسلامية قوية جدا. بورقيبة نفس الشيء، فهو يمثل في نظري نسخة عربية من أتاتورك. نفس السيناريو. النتيجة إن تهميش الدين يأتي بردة فعل في الاتجاه المعاكس. الحقيقة الثانية: تهميش العصر حيثما كانت هناك دولة حاولت إلغاء العصر والتعامل فقط مع معطيات تاريخية وتراثية، هذا فتح المجال لردة فعل في الاتجاه المعاكس. فإذن التأصيل الإسلامي والتحديث العصري يمثلان جدلية، لكل واحد منهما أساس موضوعي، وأي بلد يهمش هذه الحقيقة، يكتشف أنه باهتمامه بطرف واحد من المعادلة يحدث ردة فعل من الطرف الآخر. ولهذا أنا أقول: التأصيل والتحديث يمثلان حاجة موضوعية، لا استغناء على أحدهما ولا إسقاط لطرف على حساب طرف آخر.. فالنظرة إذن لجدلية الموضوعين يقتضي التنسيق بينهما لتحقيق التوازن. فالتيارات الإسلامية المعاصرة في رأيي لا تستطيع أن تقوم بدورها التاريخي إلا إذا راعت أنها مخاطبة بالتحديث، فتشبع الضرورتين معا ولكن إذا مارست دورها دون الاهتمام بهذا الجانب في رأيي ستفشل داخليا لأن هناك تعددية كبيرة جدا، وتفشل خارجيا، وهذا ما حصل بشكل خاص في السودان، فتجربة الأسلمة السودانية وقعت في شر آمالها، لأنها لم تقم بالاجتهاد المطلوب في حل المشكلات المعاصرة، فاهتمت بالتأصيل، وأسقطت التحديث وهذا نفسه الذي حدث لطالبان. وإن كان التأصيل عند طالبان يأخذ منحى آخر؟ طالبان كانوا أكثر جهالة بالإسلام، وأشد جهالة بالعصر، فطالبان عمياء، وتجربتنا عوراء. يبدو أن الأعور هو خير من الأعمى، والأعور على كل حال هو من عين واحدة؟ ( يضحك) أي تجربة تخطئ العصر (طالبان)، وأي تجربة تسقط الأصل (أتاتورك). ونحن يجب أن نتخلى عن مثل هاتين النظرتين حتى نستجيب لتحديات العصر، وكل القوى الإسلامية الموجودة في الساحة الآن مخاطبة بهذه الجدلية، بمعنى أن تتجنب الطالبانية والأتاتوركية. تثار في الساحة العلاقة بين الجانب الدعوي والجانب السياسي، أو بعبارة أقرب من معجمك الخاص العلاقة بين التصوف كتجربة ذاتية والسياسة كممارسة عملية، كيف تنظر إلى العلاقة بين الأمرين؟ أنا أرى أن التصوف ضرورة أساسية للبناء الذاتي ، لأنك محتاج بالضرورة لهذه القيم الروحية. الإيمان ليس مجرد شيء زائد على حياة الإنسان، الإيمان ضرورة للطمأنينة والتخلق ولبث الأمل والآمال. أنا أعتقد هذه الناحية هي جد مهمة. التصوف ضروري لهذا البناء الروحي، وأعتقد أن له آفاقا كبيرة جدا يقول الله تعالى: واتقوا الله وآمنوا برسوله يجعل لكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به . الإنسان بموجب الرياضات الروحية ملهم. والإلهام هو نوع من الوحي دون النبوة، وهذا متاح في الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن المحدثين والمبشرين، ويتحدث عن الرؤية الصادقة. لكن ألا ترى معي أن هذا الإنسان الذي يندرج ضمن سلك التصوف وينال المشيخة قد يعطي لنفسه سلطة بمقتضاها يرى للناس ويصادر رأي الآخرين بدعوى أنه وصل والآخرين لا زالوا في الطريق؟ لا بد أن نتكلم عن الحق، وبعد ذلك نتحدث عن الإساءة إليه. أنا أعتقد أنه طالما أننا نؤمن أن الإنسان فيه قبس من روح الله، فلا بد أن تكون عنده ممارسات صوفيةثم سواها ونفخ فيه من روحهفما دام نفخ من روحه، فروح الله هذه عندها وجود، ولا يمكن أن ننكر هذه الحقيقة. طبعا هناك ككل حقيقة يمكن الدجل والإساءة أن يتسرب إليها، فيمكن للشخص أن يستغل مثل هذه المفردات ويتأله أو أن يكون دجالا. هذه أعتقد هي أمراض التصوف. أما التصوف في حد ذاته فلا شك أبدا أنه ضرورة للإسلام. والثابت تاريخيا أن التصوف قام بدور عظيم في حفظ الإسلام على الرغم من الظلم والطغيان ووجود الدولة المستبدة والفقه الجامد. الذين حفظوا القيم الإسلامية هم أهل التصوف. لقد مرت على ذاكرتي قصة طريفة تظهر الدور الكبير الذي يقوم به رجالات التصوف، زرت الاتحاد السوفياتي سنة 1980, وبالتحدي طشقند ومررونا هناك على كل الإنجازات الشيوعية، وقمنا بزيارة ما يسمونهالبراعم الحمراء وهم أولاد صغار وبنات صغيرات المفروض فيهم أن يكونوا قد زرعوا فيهم الفكر الشيوعي وثقافة الإلحاد، وقد قدموهم لنا باعتبارهم حملة المشروع، وحاولت أن انسل من الحرس المرافق وانفردت بأحد البراعم وسألته: تحفظ الحمد؟ فقال : نعم فقرأ الفاتحة كلها، فقلت له :من حفظك؟ فقال:أحد المشايخ يزورنا في البيت يعني في ظروف المحنة السوفياتية والقهر، وهيمنة ثقافة الإلحاد، الجماعة المتصوفة تغلغلت في البيوت وحافظت بذلك على العقيدة وعلى المعاني الروحية والقيم الإسلامية. فالتصوف لا شك أنه قيمة حقيقية وقيمة إسلامية. طبعا هناك مسائل أساءت إلى التصوف كالذين تحدثوا عن الباطن كأنما هو بديل للظاهر، وكأنما يمكن أن تسقط التكاليف الدينية وتبقى صالحا، وكأنما تهيء الآخرين بأن لديك قدرات إلهية. فلا شك أن هذه هي امراض التصوف، وقد اساءت إليه . والتصوف وإن كان ضرورة فهو وحده لا يغني ولا تحصل به الكفاية، فلا بد من اجتهاد فكري وفقهي وتجدي في الخطاب الديني، لا بد لك ايضا من مشروع لإصلاح المجتمع، فليس مطلوبا فقط أن تكون لك نظرة للإحياء الذاتي، وإنما أيضا رؤية لتغيير المجتمع. فأنت محتاج دائما إلى إعمال جدلية أخرى يلزم أن تتوفق للجمع بين طرفيها ومكونيها الأساسيين، جدلية الرؤية الروحية والرؤية الاجتماعية. والجهاد هو أقوى مظهر من مظاهر العمل الاجتماعي، فبين الجهاد والتصوف جدلية حقيقية، والمسلم حقيقة مطالب بأن يحل مشكلة الذاتية والسطحية عبر تفعيل جدل الجهاد والتصوف. إذا كنت تتبنى الديمقراطية كآلية لتدبير الخلاف وتطريف التعدد، ألا يستعمل المتصوف سلطة الإلهام والرؤية لإسقاط الديمقراطية وآلياتها ومصادرة رأي الجماعة التي يتزعمها بدعوى كونه ملهم ومحدث؟ طبعا هذا ممكن، لكن لا بد أن أوضح الأمر بمثال واضح. سئل سقراط يوما عن الفضيلة فقال:الفضيلة وسط بين رذيلتين فقالوا له : يا حكيم وما الوسط؟ يردون بذلك ضبطه وتحديده، فكان رد سقراط أنه لا يستطيع تحديد الوسط لأن المسألة ليست عملية رياضية. إن هذه مسألة فيها تقريب وتغليب كما يقول بذلك الأصوليون وهي ما يسمى في المفردات الحديثية التسديد والمقاربة أيوا... في نفس هذا الإطار، يمكن للإنسان أن تقوده قوته الذاتية إلى أن يفترض أنه هو الذي يرى للجميع، ويصادر بذلك حقوق الآخرين. هذا غلط، لكن الغلط لا يمنع الحديث عن وجود إلهامات، بمعنى أنه يمكن أن يكون لك إلهامك، لكن ما دام فالإلهام تجربة ذاتية فلا ينبغي أن تلغي تجارب الاخرين. فأنت كمتصوف ينبغي أن يكون رأيك كرأي باقي الناس، وبعد ذلك لو شعر الناس أن لك آراء قوية ووجيهة، فلست في حاجة لاستعمال وسائل أخرى قهرية غير سلطة الفكرة ودليلها الذي تستند إليه. فلو شعر الناس أنك بهذه السبيل تقارب في الغالب الصواب مرة وثانية وثالثة وهكذا فبالعكس قد يفتنونك في دينك ونفسك.المتصوف يشترك مع الجميع في كونه ملهم، وأنا أقول أن الإلهام ليس مختصا فقط بالمتصوف والشيخ العارف، بل كل إنسان هو ملهم. هذا توجه ديمقراطي داخل التأثيث الصوفي لا يصادر حق البشر في أن يكونوا ملهمين وبالتالي لا ينفرد الشيخ بهذه الخاصية أو للدقة بهذه السلطة؟ نعم بالتأكيد، أنا أقول إن مصادر المعرفة أربعة: الوحي والإلهام والعقل والتجربة، وهذه المصادر الأربعة في القرآن واردة، الوحي للأنبياء والإلهام لجميع البشر وليس فقط للأولياء، إذ كل البشر عندهم قبس من روح الله، وما دام عندهم هذا القبس فهم دائما على استعداد لكي يعرفوا الأشياء ويتوصلوا إلى الحقائق.المسيحيون واليهود وجميع البشر عندهم ناس ملهمين لأنهم بشر والله تعالى يقول:ولقد كرمنا بني آدم صحيح أنه بعد عصر الثورة العلمية والتكنولوجية تراجع الاعتراف بمصدرية الإلهام في إنتاج المعرفة، إذ أصبح الناس لا يعطون قيمة للإلهام، لكن هذا لم يمنع الأكثر عقلانية في الغرب يقول بأنه اكتشف نظريته أو قانونا من القوانين بواسطة الأحلام. ديكارت مثلا مؤسس النظرة العقلانية استخلص نظريته الكوجيطو الديكارتي في رؤيته في المنام. فهذا أكبر إنجاز عقلاني مربوط بالأسلوب العقلي والعقلاني صاحبه زعم أنه رآه في المنام، فهو رآه بطريقة غير عقلانية. أنا أقول اختصارا هذه كلها معاني في معرفة واكتشاف الإنسان، ويجب ألا نختصر الإنسان ونفهمه بشكل سطحي يلغي أبعاده الحقيقية.