هؤلاء منشباب الضواحي الذين لا يحرقون السيارات والذين لا يتكلم عنهم أحد أبدا. طموحات عريضة تملأ رؤوسهم؛ هؤلاء الشباب هم على نقيض الصورة الكاريكاتورية لشباب الضواحي الذين يلبسون أقنعة والتي شغلت الفضاء الإعلامي الفرنسي خلال الأسابيع الماضية؛ إنهم يريدون أن يصبحوا: قضاة، أو مديري مقاولات، أومسيرين في التجارة، أو خبراء في المحاسبات، أو عمداء شرطة. هؤلاء الشباب المتعددون في الضواحي وفي الأحياء الشعبية نالوا شهادة الباكالوريا ويشغلون اليوم مقاعدهم في مدرجات الجامعات: جامعة باريس-31 بفيلتانوز أو غيرها من الجامعات الكبرى، ويعيشون في قلب حي سان-سين-دونيس الذي شهد أول شرارة للأحداث التي هزت فرنسا في شهر نونبر الماضي. يمكن أن يكونوا ببذلاتهم الرياضية، وجاكيطاتهم الجلدية، وأحذية الباسكيت؛ أوباشا كما وصفهم ساركوزي. إنهم شباب فرنسيون منحدرون من الهجرة، وقد مروا من نفس المدارس، ونفس الإعداديات والثانويات، ولا يزالون يجاورون في السكن أولائك الذين فشلوا في الدراسة وأصبحوا متكئين على الجدران في أحياء الضواحي. إلا أنهم قد نجحوا في دراستهم ويتشبثون -مجتهدين ومثابرين- بحقهم في الحصول على دبلوم عالٍ.فما الفرق بين هؤلاء وهؤلاء؟ إنه السلطة الراعية للأبوَين كما يؤكدون كلهم بإجماع. آباؤهم الذين ظلوا دائما ضد الخرجات الليلية وضد الرفقة السيئة، لم يستسلموا للأمر الواقع في الضواحي. مثلا هذهآبي كونديو هذه الشابة الفرنسية من أصل سينغالي ذات العشرين ربيعا والتي تقطن منزلا جد متواضع في طرامبلاي-أون-فرانس وتدرس في السنة الثانية علوم قانونية بكلية الحقوق، وتحلم بأن تصبح قاضية؛ والتي تقول بهذا الصدد:كان والدي يقول لنا دائما: إذا كنتم هنا في فرنسا فمن أجل فعل شيء مفيد إنها تتفهم غضب المنتفضين في أحداث نونبر ولكنها ترفض الخطاب التبسيطي، تقول:في كل ما يحدث هناك مسؤولية كبرى للآباء، من يمكن أن يجد من الطبيعي أن طفلا في سن الثاني عشر يبقى خرج بيته خلال الليل؟ أخي الصغير لا يمكن أن يبقى خارجا بعد ساعة من عودته من المدرسة... هؤلاء الشباب الناجحون يؤكدون على تأثير ضغط الأبوين في نتائجهم الدراسية. فقد لقنوهم منذ سنواتهم الأولى في الحياة احتراما عميقا للمدرسة، كما لقنوهم ضرورة الحصول على دبلوم حتى يحق لهم الحصول على حظهم في الاندماج. يقول عبد الله بلحسن(21سنة، في السنة الأولى بالمعهد الجامعي للتكنولوجا):لقد كان أبواي دائما حاضرين في حياتنا، وهذا يبدو تأثيره واضحا في مساري الدراسي ومسار إخوتي وأخواتي. ويسرد أمثلة النجاح في أسرته مُطريا بشكل خاص على التربية التي خصتهم بها والدتهم في البيت، ووالدهم العامل والذين ولدا هما الإثنين بالجزائر. يقول عبد الله:أختي الكبرى حاصلة على الإجازة وتعمل في مجال التجارة الدولية، وأختي الأخرى أنهت دراسة خمس سنوات بعد الباكالوريا في المعمار المدني وهي الآن بصدد البحث عن عمل، وأخي الأكبر حاصل على دبلوم باكلوريا زائد خمس سنوات في مجال تهيئة التراب.... والإنقاذ يمكن كذلك أن يأتي من المدرسين الذين قد يلتقي بهم الشباب في الإعداديات أو الثانويات؛ مقران حامادوش (21 سنة ويدرس في السنة الثانية بالإدارة الاقتصادية والاجتماعية) يقدم نفسه على أنه جانح صغير سابقا، فقد سبق له أن اقترف بعض السرقات، وكان من السهل أن يتعارك لمجرد(نظرة سيئة) صادرة من شخص ما، وقد أنقذه من الضياع أستاذان، واحد في التاريخ والجغرافيا والآخر في الرياضيات. يقول مقران: لقد أقنعاني بأنني لست غبيا، وأنه ليس فقط في الرياضة البدنية يمكنني أن أحصل على 18/.20 وانطلاقا من لحظة إرجاع الثقة هذه ارتمى ليلتحق بالعربة المناسبة والقطار يسير، عربة التلاميذ الذين يصلون حتى الباكالوريا. هذا الشاب يستخلص من تجربته تصورا صارما لمسألة التربية؛ يقول:في إمكان الآباء أن يعيدوا الأمور إلى نصابها وينظموا مسار أبنائهم: عندما تكون طفلا صغيرا وترتكب خطأً تنال عليه عقابا، بضع ضربات على المؤخرة من شأنها أن تنبه المخطأ. إنه أمر طبيعي؛ ولكن مع القوانين الحالية! الأب مهدد بزيارة السلطات في بيته إذا مد يده على طفله...وهذا مؤسف. هؤلاء الشباب المتفوقون يُبدون انتقاداتهم تجاه تقصير الدولة الفرنسية؛ كوارث البطالة الجماعية، التمييز المرتبط بلون البشرة... ولكنهم يرفضون اعتبارهم ضحايا. يقول مصطفى بوتولة(23 سنة، حاصل على الماستر في العلوم الاقتصادية) :لقد ولدت بالجزائر جئت إلى فرنسا وأنا في سن الرابعة. وكلما بحثت عن الشغل أجده، من أجل تمويل دراسته سبق له في البداية أن اشتغل في وكالة لتسويق الهواتف حيث أصبح بعد ستة أشهر من العمل رئيس فريق، قبل أن يعمل كأجير في شركة الطيران الفرنسية ثم في سوق كبير متخصص في اللعب. مصطفى بوتولة لازال يقطن بحي لا كورنوف ولكنه يعلم أنه بمجرد أن يصبح له أطفال سوف يكون عليه مغادرة الضاحية:حتى يحميهم من التأثيرات السيئة. وهذا تانغي كامنمن غويانا يرفض اعتبار المجتمع المذنب الوحيد في التوثرات الحالية؛ يقول:إن الخطابات السهلة تنرفزني. هناك بعض السود والعرب الذين يقولون بأنهم لا يجدون شغلا؛ ولكنهم يرفضون العمل كسائقين في تموين المتاجر مثلا مقابل ألف أو ألف ومائتي أورو. وأسمع كذلك شبابا يشتكون من المدرسة: مع أنه إذا توقف التلميذ عن الاجتهاد عند بلوغه قسم الشهادة الابتدائية، ثم أخذ في الشكوى والاحتجاج، فهذا تصرف غبي، لأن الذي يحق له الاحتجاج هو من كد واجتهد ثم لم يجد!. هذا الشاب الغوياني حاصل هو الآخر على الماستر في الاقتصاد والمالية، ويريد أن يصبح مسيرا تجاريا.ويؤكد أنه إذا وجد صعوبة في الاندماج فإنه مستعد للذهاب إلى الخارج من أجل العمل. من أجل النجاح، يجب معرفة كيفية التخلص والاحتماء مما يسميه أحد هؤلاء الشباب المتفوق ب وباء شاشات البلاسما والسيارات الفارهة وهو نوع من أحلام اليقظة يقتضي ربح أموال ضخمة وبسرعة كبيرة وبالتالي بجميع الطرق. إن خطابا كهذا صادر من شباب الضواحي الناجح في حياته يرن كامتداح لروح المسؤولية والتطوعية الفردية. يؤكد دانييل بوغاران (22 سنة، من أصل يوغوسلافي وحاصل على الماستير في الاقتصاد):إن أولائك الذين أحرقوا السيارات لا شك أنهم لم يسبق لهم أن بعثوا بطلبات عمل مرفوقة بسيرتهم المهنية. إنهم يقولون المدرسة لا تريدني، بينما الحقيقة هي أنهم هم الذين لا يريدون المدرسة. إذا همشت نفسك من المدرسة فقد همشت نفسك من كل شيء. والنتيجة المنطقية لهذه الرغبة العميقة في النجاح لدى هؤلاء المتفوقين أنهم يرفضون كل فكرة عن ما يسميه ساركوزي ب التمييز الإيجابي. يلخص مقران حامادوش هذا الرفض بقوله:+نحن لا نريد شيئا يقدم لنا كجميل، ويضيف جيل بنسيمبا(22 سنة، مجاز في الإدارة الاقتصادية والاجتماعية):سوف يكون من الصعب علي أن أعلم بأنني مُنحت عملا ما لأنني أسود صغير من الضواحي، وتؤكد ستيفاني بيسولي(18 سنة ، من المارتينيك، حاصلة على الباكالوريا بميزة حسن جدا، وتدرس حاليا بالسنة الأولى بشعبة تسيير المقاولات بالمعهد الجامعي للتكنولوجيا):عندما يتحدثون عن الكوطا نحس أن الأمر يتعلق بحيوانات. وحتى وإن كان مسارهم بالضرورة صعبا، وحتى وإن كانوا يخشون من التمييز عند الولوج إلى سوق الشغل فإنهم يطالبون بإدماج كامل وتام، ولكنه مرتبط فقط بكفاءاتهم وحدها. لأنهم في الحقيقة يشعرون بعدم الحاجة إلى الاندماج في المجتمع الفرنسي يقول مقران حامادوش:لقد قدِم أبواي من الخارج؛ كانوا في حاجة إلى الاندماج، أما أنا فولدت هنا، إنني فرنسي بقدر ما ساركوزي فرنسي؛ فأنا أتكلم الفرنسية، وأستهلك المنتوجات الفرنسية. ما الذي علي أن أفعله أكثر من أي فرنسي آخر؟. هذا الشاب الذي سيجد نفسه يعمل في وكالة للتأمين أو يصبح أستاذا جامعيا يقرر أن سبب نجاحه يكمن في نجاح العائلة: أخت كبرى تعد الماستيرفي جامعة برشلونة، وأخت أخرى أصبحت وكيلة في الطيران، وأخ يهيء الباكالوريا في الرياضيات العليا وآخران في الثانوي، ويحصلان بانتظام على أعلى النقط وعلى تنويه. إن مصطلح إدماج نفسه يقلق هؤلاء الطلبة. يتساءل آرسكي قساسي(20 سنة، من أصل مغربي، ويقطن في إيبيني-سور-سين):لماذا لا يمس المشكل إلا السود والعرب فقط ولا يمس الصينيين؟. يؤكد هذا التلميذ النجيب سابقا في الثانوي شعبة العلوم، ويهيء حاليا الإجازة في الاقتصاد والتسيير، ويريد العمل في مجال الاقتصاد أو المال، مجيبا على تساؤله:إن ذلك بسبب الإسلام، فبما أنه دين في تصاعد بينما الأديان الأخرى في انحدار، فإنه أصبح دينا يُنظر إليه شزرا. هذا الشاب المسلم المتدين الذي يَعتبر طارق رمضان مثلَه الأعلى في النجاح الاجتماعي، يؤكد على الدور الوازن للتدين في النجاح الشخصي لكل فرد يقول:أن يكون المرأ بوذيا، مسيحيا أو مسلما؛ فذلك عامل من عوامل السكينة والهدوء، وهو ما يمنح الإنسان فلسفة في الحياة وقيما تهديه. داخل بيئة صعبة فإن الجانب الروحي يمنح إطارا للحياة وللنجاح خصوصا بالنسبة للأطفال الأقل مراقبة من طرف الآباء. يقول مقران حامادوش عن ذلك إنه :نقاء الحياة الذي ينجم عن ممارسة التدين.أما مصطفى بوتولا فيؤكد على الوظيفة الاجتماعية للتدين في أحياء الضواحي الحمراء كما يسميها وهي التي ظلت لمدة طويلة مؤطرة من طرف الحزب الشيوعي الفرنسي، يقول:إنه يعوض المؤسسات التي أبانت عن عجزها.عبد الله بلحسن هو الآخر قد وجد في المسجددليل هداية، يقول:إن التدين يمنحك القوة لمقاومة إغراء الرغبات المنحرفة، بما في ذلك غواية البنات يقول مضيفا:عندما تلتقي طالبات في الكلية بأولاد وتسلمن عليهم فإنهم يتصافحون، في الغالب بدون أية خلفية، ولكن تبادل القبلات على الوجنتين قد يؤدي إلى التفكير في أمور سيئة. أما تعابير الغضب الوحيدة التي عبر عنها هؤلاء المتفوقون من أبناء الضواحي فهي موجهة لوسائل الإعلام ولرجال السياسة. فوسائل الإعلام متهمة من طرفهم بأنها لا تظهرالضواحي إلا من زاوية مفجعة، وداعية للسخرية.يقول تانغي كامن منددا:عندما يتم استدعاء نيكولا ساركوزي إلى برنامج ما في التلفزيون ليتحدث عن الاضطرابات التي شهدتها الضواحي فإنهم يختارون ليُجلسوا أمامه شابا يضع على رأسه طاقية ولا يستطيع تركيب جملة مفيدة واحدة بالفرنسية ولا بالعربية، وذلك حتى يكرسوا الصورة السيئة التي نسجوها لشباب الضواحي . والمتفوقون كذلك يواجهون بسبب ذلك خطر تحمل تبعات هذا التعميم المتسرع حول شباب الضواحي. تقول ستيفاني بيسولي في قلق:ما هي الصورة التي يقدمونها عنا في حملاتهم؟ حسب ما تقوله تي.إف.,1 فبما أن هذه القناة التلفزية تفضل استجواب الصغار الذين يتسكعون في الردهات المهجورة، فإن الصورة إذن كارثية دائما. وأما رجال السياسة فهم موضوع رفض ولفظ أكثر راديكالية. يقول تانغي كامن:أنظروا إلى الجمعية العمومية (البرلمان): ليس هناك إلا أسودان فقط، وحتى هذان الأسودان قادمان من المقاطعات الفرنسية في ما وراء البحار، ويضيف مقران حامادوش ساخرا:وفي الحكومة هناك فقط عزوز بغاغ الذي هو على كل حال وزير للديكور. أما آرسكي قساسي فيثير الحديث عن إرادة في المناورة حول المواضيع الاجتماعية:في سنة 2002 كانت هناك قضية الأمن، ثم جاء النقاش حول الحجاب في المدرسة، واليوم انتفاضة الضواحي، فما الذي سيجدونه للحديث به عنا غدا؟. ومن بين هؤلاء الشباب المتفوق الذي لا يتحدث عنه أحد في الإعلام ولا في السياسة هناك الكثيرون الذين لا يعرفون لمن سوف يصوتون في الانتخابات القادمة، وينوون الامتناع عن التصويت. البعض يفضل منح صوته لالاتحاد من أجل حركة شعبية الذي يرأسه ساركوزينفسه. ولكن لا أحد ينوي أو يتصور أن يصوت لليسار، الذي ظل في رأيهم غائبا بشكل واضح خلال النقاشات حول المجتمع الفرنسي.