مرة أخرى يصرخ حارس الأقصى، الشيخ المجاهد رائد صلاح، زعيم الحركة الإسلامية. يصرخ من أجل إنقاذ المسجد المهدد بسيل لا ينتهي من المؤامرات اليهودية لاغتياله وبناء الهيكل على أنقاضه. لا تنام عين الشيخ ومحبيه، فهم يراقبون الموقف بعني صقر، وفيما اعتقد الصهاينة أن السجن قد لقنه درساً لن ينساه، ها هو يعود إليهم من جديد غير آبه بسجونهم ولا برصاصهم. ولأنه يدرك أن القوم لا يتوقفون عن ملاحقة باطلهم، فقد قرر أن لا ينام عن حقه أبداً، لا هو ولا الرجال الذين أحبهم وأحبوه، وها هو يكتشف الغزاة وهم يتسللون في غسق الليل رغم كل إجراءاتهم الأمنية، ورغم إمكاناتهم التكنولوجية. ها هو يمسك بهم متلبسين بالحفر من جديد تحت المسجد الذي أشبعوه حفراً منذ عقود كي يجدوا هيكلهم من دون جدوى. أن يحفر الغزاة نفقاً يسمح بمرور شاحنة تحت المسجد، فلذلك دلالته على ضخامة المشروع، وأن يبنوا كنيساً على مرمى تسعين متراً من قبة الصخرة، فذلك يعني أن القبة قد دخلت دائرة الخطر هي الأخرى، مع العلم أن عام 2007 هو العام الذي حددته الدوائر الدينية الإسرائيلية لبناء الهيكل. في عام 2007 يفترض أن يكون شارون قد انتهى من خطته للانفصال أحادي الجانب في الضفة الغربية أيضاً بعد استكمال بناء الجدار، وضم مساحات واسعة من أراضي الضفة وتثبيت وحدة القدس تحت السيادة الإسرائيلية. ونتذكر هنا أن شارون نفسه هو الذي أشعل انتفاضة الأقصى عبر زيارته الشهيرة نهاية أيلول من العام 2000، مع أنها كانت على وشك الاندلاع في كل الأحوال بعد فشل مشروع أوسلو ووصوله حد المساومة على المسجد الأقصى نفسه بحكاية الجزء العلوي والسفلي. جاء شارون إلى المسجد في كامل زينته وبين حراسه، بل بحراسة السلطات الرسمية آنذاك. جاء من أجل التأكيد على حرمة الهيكل في الوعي اليهودي وعدم إمكانية المساومة عليه، مزايداً حتى على مطالب حزب العمل التي أثارت أعصاب الفلسطينيين ومن ورائهم أمة الإسلام. ولكن ماذا لو مات شارون، موتاً كاملاً أو سياسياً، هل ينتهي الخطر؟ كلا بالطبع، فقد ثبت أن مسألة الهيكل هي القاسم المشترك بين اليمين واليسار والعلمانيين والمتدينين في الدول العبرية. من هنا يمكن القول إن ما يجري عملياً هو مجرد خطوات على طريق شطب قضية المسجد الأقصى، ليس مباشرة أو بخطوات متطرفة، بل من خلال المفاوضات والتوافق، وإذا لم يكن فمن خلال الإخضاع؛ إخضاع السلطة ومرجعيتها العربية، وكما فرض على السلطة الفلسطينية ومن ورائها مصر أن تتعامل مع الانسحاب من قطاع غزة بوصفه تنازلاً رغم كون انسحاباً تحت ضربات المقاومة، فلا يستبعد أن يقبل البعض بحكاية اقتسام المسجد الأقصى، وأقله السكوت على الانتهاكات بحقه خلال الأعوام المقبلة. بالقوة لن يأخذ الصهاينة من المسجد ما يريدون، وإذا أخذوا فسيكون للموقف ما بعده على صعيد الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، لكن الخوف هو من أولئك الذين يتعاملون مع الأمر بوصفه بنداً بسيطاً من تفاصيل التفاوض، ومن تنازل عن 78 في المئة من فلسطين منذ البداية لن يستبعد عليه أن يتنازل عن أجزاء من المسجد من أجل تفاصيل أخرى هنا وهناك يراها أكثر أهمية بالنسبة إليه. واثقون من قدرة الشيخ وأصحابه على حماية المسجد من هجمات المتطرفين، ولكن ماذا لو داهمته المفاوضات وغدا مادة للتنازل والأخذ والعطاء؟ ما يطمئننا في واقع الحال هو القناعة بالأفق المسدود أمام لعبة التفاوض في ظل طروحات شارون ونتنياهو، بل وحتى بيريتس، زعيم العمل الجديد، وإذا تجرأ أي طرف بالموافقة عليها، فسيكون ذلك بمثابة انتحار سياسي، أما إذا تمت في ظل الرفض فإن للرفض ما بعده بصرف النظر عن بشاعة الإجراء المتخذ.