في هذا الحوار المثير يتعرض الصحفي المصري اللامع حسام تمام لموضوع النبوءة وتوظيفاتها في حقل السياسة، ويتناول بالبحث والدراسة رؤية جماعة العدل والإحسان لعام 2006 ويجتهد في مقاربتها وتحليلها في ضوء موقع الغيب وموقع الرؤية داخل التصور الإسلامي، كما يتعرض للوظائف السياسية التي تؤديها الرؤية. لعل من بين الموضوعات الخطيرة التي صارت تستأثر بالدراسة والتحليل مفهوم النبوءة وعلاقتها بالحراك السياسي والاجتماعي، حتى أصبحت النبوءة في كثير من الأحيان قاعدة للعمل السياسي، ولتفسير الخريطة السياسية أيضا، كيف تنظر إلى علاقة النبوءة والسياسة؟ النبوءة واحدة من المفاهيم الرئيسية في المشترك الديني للإنسانية، ومن أكثر مفرداته شيوعًا في الخطاب الديني على اختلاف مصادره بحيث لم يخل الخطاب الديني من هذا المفهوم في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني. وإذا كانت النبوءة على هذا المستوى من الشيوع في الخطاب والتراث الديني للإنسانية، فإن نبوءة نهاية العالم هي أكثر النبوءات الممتدة والمشتركة في التاريخ الإنساني، والتي أعيد إنتاجها مع اختلافات طفيفة في التفاصيل والصياغات والسياقات التاريخية، منذ فجر التاريخ وإلى عصرنا الحالي، بحيث يمكن تصور نموذج موحد لنبوءات نهاية العالم في التراث الديني للإنسانية على اختلافه. وفي هذا النموذج يتجسد العالم في صورته الجميلة (أو عصره الذهبي) على هيئة الفردوس (أو الجنة الأرضية)؛ حيث الحياة كلها خير بلا شر أو خطيئة إلى أن يظهر الشر فيحدث الصراع التقليدي بين الخير والشر والذي لا بد وأن ينتهي بنهاية الشر رغم علوه، ليبدأ عصر جديد سعيد تُملأ الأرض فيه عدلاً ونوراً كما ملئت من قبل ظلمًا وفجورًا، وتعود - كما كانت - جنة ليكون ذلك إيذانًا بنهاية الحياة من الكون كله، ووقوع القيامة الكبرى. وعلى ذلك، فيمكن تعريف النبوءة بأنها: رؤية المستقبل في صورة ماضوية متحققة ويقينية وليست غيبًا مجهولاً كما هو المفترض. لكن أستاذ حسام كثيرا ما نجد النبوءات في مجالات أخرى غير الحقل الديني، فهناك توجهات إيديولوحية تطرح النبوءة كعنصر فعال في نظريتها، نأخذ على سبيل المثال نظرية فوكو ياما نهاية التاريخ؟ بالتأكيد، فالتوجهات الإيديولوجية استقت هذه المفاهيم واستعارتها من الحقل الديني، نظرا لقوتها في التوظيف السياسي، ونظرا لطابعها وصفتها الحتمي، فنبوءة المفكر الأمريكي الأشهر فرانسيس فوكوياما عن (نهاية التاريخ) لا تخلو من الحتمية رغم أن موضوعها اقتصادي اجتماعي، والصراع فيه تاريخي بين القوى التي تدعي القدرة على تنظيم المجتمع والسيطرة عليه، وبين تلك التي ترى أن المجتمع ينظم نفسه من داخله، ويتنبأ بشكل حتمي بنهاية الصراع لمصلحة القوى الأخيرة وهو ما سيتجلى في سيادة الديمقراطية، ورغم أنه مادي وفكرة القيامة والآخرة خارج حساباته تمامًا على الأقل في هذا الصراع؛ فإنه يطرح النبوءة في صيغة حتمية لا بديل لها، ولا بد من تحققها!. معنى هذا أن النبوءة لا تنفصل عن الذات، بمعنى أن هناك دائما رغبة في توظيف النبوءة في الحقل السياسي؟ تعد النبوءة أحد أوراق اللعبة السياسية المهمة والفاصلة في التاريخ الإنساني كله، يوظفها السياسيون لمصلحتهم، بل وربما اخترعوها إن لم تكن موجودة، وذلك من أجل تحقيق مصالح وأهداف سياسية لما لها من تأثير واسع يماثل العقيدة، خاصة وأنها تستمد قوة إضافية من كونها تلعب على غريزة البحث عن المجهول والولع بمعرفة الغيب لدى النفس الإنسانية. في الحقل الحركي الإسلامي بدأت النبوءة تشتغل بنحو فعال في شكل منامات وبشارات يتم تأويلها وتوظيفعا داخل الحراك الاجتماعي والسياسي، وأحيانا تعطي المشروعية لفئة، وتنزعها من فئة أخرى، كيف تقارب هذا الاتجاه؟ النبوءة في التصور الإسلامي يمكن مقاربتها من خلال مفهومي الرؤية والبشارة، وقد حدثت زمن النبي صلى الله عليه وسلم بشارات تفصيليًة بخصوص بعض الأحداث، ورغم ذلك، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحكمها في التدبير السياسي وفي سياسته الشرعية، فقد كان الوحي ينزل بقرآن يدعو الرسول بعد الهزيمة في المعركة إلى العفو عن أصحابه الذين أجبروه على الخروج وخالفوا أمره، بل ويأمره بلزوم مشورتهم فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، وهو ما يعني أن النبوءة في المنهج الإسلامي غير ملزمة ولا ترتبط بالمستقبل كتاريخ أو وقائع محددة لا بد من انتظار تحققها؛ وإلا صار ذلك بمثابة ادعاء لمعرفة الغيب، وهو ما يشكل خروجًا على الدين نفسه؛ لذلك يعتمد المنهج الإسلامي مبدأ الإيمان بالنبوءة دون الالتزام بها ثم التسليم بها حالة وقوعها وهو ما يعني أن النبوءة لا تعنينا - واقعيًا - إلا وقت تحققها ووقوعها فعلاً وساعتها يكون التصرف نحوها هو التسليم فقط. لو ننتقل إلى عينة تحليلية نحاور فيها التوظيف السياسي لبعض المفاهيم الدينية. في حرب العراق تم توظيف جملة من النصوص الحديثية لتفسير طبيعة الحرب والتنبؤ بمصيرها ومآلها والانتصار الكبير الذي سيحققه العراق، كيف تقرأ موقع النبوءة في هذا المجال؟ أغرب ما رأيته في الموضوع هو العمل الضخم الذي قام به الدكتور عادل دسوقي من خلال كتابه أشراط الساعة وهو بالمناسبة قد تجاوز ثمان مجلدات، ويعتبر هذا الكتاب مجالا خصبا للدراسة في هذا الموضوع. فكرة الكتاب هو جمع كل النصوص التي تتحدث عن أشراط الساعة، وقد ركز في هذا الكتاب عن النصوص التي يرى مؤلفها أنها تتنبأ بحرب العراق مع الأمريكيين، وأن أكثر من ثلاثين فريقا سيجتمعون على المسلمين عند النهرين، ومضى في تحليل مسهب يتحدث عن تفاصيل المعركة ويقارن الوقائع الجارية على الأرض بالنصوص. لكن الأستاذ حسام، كل الناس اليوم وقفوا على الواقع كما هو، لقد سقطت بغداد، والاحتلال الأمريكي الآن حقيقة على الأرض؟ الغريب والملفت للانتباه أن الذي يشتغل بالنبوءة ويسخرها في التحليل السياسي لا يمكن أن يتوقف عن إنتاج التأويلات والسيناريوهات ليثبت صحة نبوءته. كيف ذلك؟ لقد كنت كدارس وباحث أتتبع ما يكتبه الدكتور عادل دسوقي، ولقد سبق أن التقيته، وتحاورنا كثيرا حول موضوع كتابه، ووقفت طويلا على النسق الفكري والمنهجي الذي يتناول به كتابه، ووجدت أن النبوءة هي الركن الأساس في الكتاب برمته. وكنت دائما أتتبع الوقائع التي تجري على الأرض، غير أنه لما سقطت بغداد وانهزم الجيش العراقي، اتصلت بالدكتور عادل الدسوقي أحاول أن استفسر مقاربته الجديدة وتنبؤه الجديد. لقد كان جوابه خارج البحث العلمي تماما. لقد قال لي باللغة المصرية: أنت تكلمني لتشمت في. معنى هذا أن النبوءة يتوقف مفعولها عند عدم تحقها أوعند تحقق خلافها؟ أنا لا أرى ذلك. إن الذي يوظف مفهوم النبوءة في حقل التفسير السياسي، يشغل دائما إلى جانبها دائما آلية أخرى أكثر قوة وأكثر قدرة على إعطاء أجوبة جديدة. إنها آلية التأويل. إن الذي ينطلق من النبوءة لا يعدم أن يجد تأويلات أخرى تعيد إنتاج النبوءة من جديد، وهكذا يبقى العقل مرتهنا تماما بالنبوءة وتفاصيلها التي لا تنتهي. خذ مثلا حالة الدكتور عادل دسوقي، لما أعلن عن القبض عن صدام حسين، أعاد تشغيل النبوءة بنحو مختلف. وطبعا الوقائع طيعة أمامه، وتفتح له إمكانات عديدة للتوظيف، فلم يعدم أن يجد عنصر المقاومة العراقية لإعادة إنتاج نبوءته الجديدة على ضوء الوقائع حتى تكون مقبولة لدى الجماهير. لو نأت لحالة جماعة العدل والإحسان بالمغرب، وباعتبارك جئت دارسا لهذه الحالة بالذات، ما هي ملاحظاتك الأولية؟ بدءا أنا أرقب بكثير من الاهتمام التجربة الحركية الإسلامية في المغرب، وكل ما سجلته من انتقادات على التجربة الإخوانية وعلى خطابها وسلوكها السياسي، لما جئت إلى المغرب في أول زيارة وتيسر لي الاطلاع عن التجربة المغربية وخطابها الفكري والسياسي ، لا أخفي عليك أني وجدت جملة من المفاهيم المتنورة والفهم المتقدم للإسلام. ولفت انتباهي بشكل كبير أسلوب الحركة الإسلامية المتمثلة في حركة التوحيد والإصلاح وأداتها السياسية حزب العدالة والتنمية. بالنسبة للعدل والإحسان، وبالنظر إلى سؤالك أجد الأمر مختلفا عما سقته سابقا. فالقضية مرتبطة بشكل كبير بأمرين: 1 تاريخ المغرب السياسي، أقصد تاريخ تعاقب الدول التي حكمت المغرب تاريخيا لا ينفك عن توظيف المنامات والكرامات والبشارات كأدوات لنزع المشروعية السياسية، وفي نفس الوقت لإثباتها. 2 التصوف أو العرفان كخطاب وكفكر دائما يجنح إلى إعادة الاعتبار للغيب ضمن معادلة الفكر الإسلامي، وأحيانا تغليب عنصر الغيب وإقالة العقل. في اعتقادي، حديث العدل والإحسان عن المنامات والرؤى يأتي في سياق تمكين عنصر الغيب من لعب أدوار في اللعبة السياسية، وقد يكون القصد خلخلة الخريطة السياسية. فنبوءة 2006 يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة: فحسب حواراتي مع بعض القيادات العدلية، لا أحد يقول بأن عام 2006 سيكون سنة إقامة الخلافة، أو سنة القومة، ومعنى هذا أن الأستاذ عبد السلام ياسين حين يتحدث عن الحدث العظيم، فإنه يحقق مقصدين: هو يريد بذلك أن لا يخرج عن الإطار التصوري والفكري الذي تندرج فيه الرؤية والبشارة. فالحدث العظيم مفتوح على كل الاحتمالات، وعلاقة الجماعة به غير مطردة، وليس هناك ما يدعو إلى تغيير في تدبير الجماعة وتخطيطها استعدادا لهذا الحدث. وهو ما يعني أن الرؤية هي متروكة للتداول والنقاش، والكل يناقشها بمنظوره ويؤولها بالنظر إلى طبيعة التحولات التي يعيشها المغرب، أو بالمآزق الاقتصادية والسياسية، أو بالنظر إلى موقع الجماعة وقدرتها على لعب أدوار في هذا الاتجاه. معنى هذا أن الجماعة دفعت بالرؤيا لتجعل منها موضوعا للتداول والتفكير وطرح السؤال، وفي نفس الوقت إثبات حضور الجماعة من خلال كل ذلك. التوظيف السياسي للرؤية واضح على عدة واجهات، أولها طمأنة أفراد التنظيم بأن خيارات العدل والإحسان لم تتغير، وأن أجواء الانكفاء التي تمر بها الجماعة لا تعني عدم فاعلية تصوراتها، وتعني من جهة أخرى جس نبض النظام السياسي ولفت انتباهه لقوة الجماعة وقدرتها على لعب أدوار قد تربك الساحة السياسية وتعيد صياغتها من جديد. لكن من يتتبع موقع الجماعة والخطاب الذي يروج له أنصار الجماعة لا يجد ما ذهبت إليه ؟ بالطبع ستجد تمثلات مختلفة لهذه الرؤية، والأمر مقصود، فالرؤية مفتوحة، والكل له الحق في تفسيرها وتأويلها، وإذا كان بعض أفراد الجماعة قد أولوها بنحو يشحذون فيه قوة الجماعة سياسيا فهذا مقصود أيضا، لكن مصداقية المرشد لن تمس إذا لم تتحقق القومة، فالرجل إنما تحدث عن حدث عظيم. وهنا تكمن خطورة التوظيف للنبوءة في الحقل السياسي. تقصد أن الرؤية لها علاقة بالمصداقية. فصدقها يعني مصداقية صاحبها وعدم تحققها يعني العكس؟ بالتأكيد، الرؤية مرهونة بالتحقق، وهي قبل ذلك تحتاج إلى تفسير، فإذا تحقق تفسير الرؤية على الأرض تمتلك بذلك مصداقية كبيرة، ويمتلك صاحبها قدرة أكبر على سحر الجماهير. غير أن الرؤية إن لم تحقق، فليس أمام صاحبها إلا أن يؤولها من جديد، وأن يعيد إنتاجها بشكل يجعلها مقبولة للناس، فينتظرون تحققها بإخراجها الجديد. وكيف هي الحالة في رؤية الأستاذ عبد السلام ياسين؟ أنا أعتقد أن الرجل يتمتع بكثير من الذكاء، فهو يوظف الرؤية في حقل السياسة بنحو دقيق، لا يسمح فيه بالمغامرة بمصداقيته. إنه ينتفع بالدور الاستراتيجي الذي يمكن أن تلعبه، خاصة داخل مجتمع تكثر فيه نسبة الأمية، وتشيع فيه الأفكار الطرقية بنحو مقدر، وفي نفس الوقت لا يعطي للرؤية تفصيلا يرتهن به، إنه يجعلها مفتوحة يسهل تأويلها بأي حدث عظيم. وبالطبع، فلن نعدم وجود حدث عظيم نفسر به الرؤية في سنة 2006 إذن ما الفائدة إذن من توظيف الرؤية كمفهوم ديني في السياسية؟ أعتقد أن الأستاذ عبد السلام ياسين يظن أن الذهنية المعرفية للشعب المغربي لا تتفاعل بشكل مؤثر مع الخطابات السننية، ولذلك فهو يسعى لتحريك الجماهير من القناة المؤثرة. فهو بهذا الاعتبار منسجم تماما مع توجهه الفكري وميولاته الصوفية، وفي نفس الوقت يمارس السياسة من حيث كونها استثمارا لكل شيء من أجل الوصول بالخطاب إلى أوسع قدر ممكن من الناس، وجعلهم في عمق مشروعه التغييري. وغير خاف عليك عبر تاريخ المغرب الحضور القوي للرؤيا كأحد الأركان الأساسية في الخطاب السياسي. ألا ترى معي أن توظيف مثل هذه المفاهيم في حقل السياسة يعتبر مغامرة قد تسيء إلى الدين حين يحشر في حقل السياسة بنحو مغلوط، وقد يسيء على القيادات الحركية حين تستنكف عن الخط السنني وتتوسل بخطوط أخرى؟ الرؤية من الغيب، غير أن دخولها معترك السياسة والقدرة على استثمارها وتوجيهها لتحقيق مكاسب سياسية هو من السننية في العمل السياسي. إدخال عنصر الغيب داخل المعادلة السياسية يحمل أكثر من معنى، فهو يحيل إلى تميز الفاعل السياسي الإسلامي، فهو لا يكتفي بالجانب السنني، وإنما يثري تجربته وتصوره بهذا الغيب، ثم إنه محاولة لإرباك الساحة السياسية من خلال اعتماد مفاهيم لا يستوعبها الفاعل العلماني، ولا يستطيع التعامل مع منطقها. لكن ماذا لو كانت مثل هذه المفاهيم تجر عداء كبيرا للحركة الإسلامية باعتبارها حركة خرافة؟ الفاعل السياسي الذي يهمه استثمار الرؤى في الحقل السياسي، يهمه أيضا استثمار الحراك الفكري الذي يحدثه خطابه ومبادرته. فكلما كثر النقاش عن جماعة العدل والإحسان، وعن أسلوبها في العمل، وكلما صار موضوع الرؤى ومضمونها متداولا في الحقل السياسي كلما حققت الجماعة قدرا من أهدافها السياسية. فهي بهذا الاعتبار تلفت الانتباه إلى حضورها القوي والوازن بدليل أن كل الفرقاء يتحدثون عنها وينتقدونها. ومثل هذا التداول الواسع قد يحقق قصدا آخر يمكن أن نصطلح عليه إعادة التوازن الفكري والنفسي لأنصار الجماعة. فهم ينظرون إلى جماعتهم وإلى مرشدهم باعتباره محور جذب واستقطاب فكري وسياسي. فالكل يتحدث عن الجماعة وفي ذلك دليل على حضورها وقوتها.