كان بعض اليهود يقولون إنهم لا يعادون محمدا (عليه السلام) بل يعادون جبريل الذي يقول عنه محمد إنه يبلغه الوحي من الله. وبذلك ينفون عن أنفسهم تهمة كراهية الله وكراهية العرب بكراهيتهم النبي العربي، فأمر الله نبيه أن يردّ عليهم. وتوجه إليه بخطاب، قلْ لهم : من كان عدوا لجبريل فهو عدو لله لأن جبريل مأمور من الله أن يبلغ إلى محمد كلام الله وليس له فيه إلا التبليغ. وجبريل إنما يُنزّل على قلبك (يا محمد) الآيات بعد أن يأذن الله له بتبليغها إليك. ... )قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين. من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل ومكائيل فإن الله عدو للكافرين. ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفُر بها إلا الفاسقون. أو كلّما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتابَ كتابَ الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر وما أنزل على الملكيْن ببابلَ هاروت وماروت. وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فِتنة فلا تكفرْ، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله. ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، ولبئْس ما شرَوْا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون( كان بعض اليهود يقولون إنهم لا يعادون محمدا (عليه السلام) بل يعادون جبريل الذي يقول عنه محمد إنه يبلغه الوحي من الله. وبذلك ينفون عن أنفسهم تهمة كراهية الله وكراهية العرب بكراهيتهم النبي العربي، فأمر الله نبيه أن يردّ عليهم. وتوجه إليه بخطاب، قلْ لهم : من كان عدوا لجبريل فهو عدو لله لأن جبريل مأمور من الله أن يبلغ إلى محمد كلام الله وليس له فيه إلا التبليغ. وجبريل إنما يُنزّل على قلبك (يا محمد) الآيات بعد أن يأذن الله له بتبليغها إليك. وجاءت هذه الآيات مصدِّقة لما بين يدي الرسول، أي لما سبقه من الكتب التي أنزلت على الأنبياء والمرسلين. وفيها جاءت للمؤمنين المصدقين بشائر وهدى. ومن كان عدوا لله وملائكته وجبريل وميكائيل فالله عدوه، لأنه سبحانه عدو جميع الكافرين المعادين له، وعدو من يعادي ملائكته ورسله. ***** {جبريل}: ويطلق عليه أيضا اسم جبرائيل ملك الوحي. وميكائيل في العربية يطلق عليه أيضا اسم ميخائيل وهو ملك السلام والرخاء. وخص الله هذين الملكين بالذكر تشريفا لهما وتنويها بمهمتيهما. ***** وآية: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق} تُقرّر تذبذب اليهود في العقيدة وخرقهم للعهود والمواثيق، لأن معظمهم لا يؤمن بحرمة أي عهد أو ميثاق. والآية بعدها: {ولما جاءهم رسول من عند الله} تفضح تقلباتهم التي دأبوا عليها. وفيما يخص محمدا وهو الرسول الذي أرسله الله وشاهدوا فيه أنه يحمل الأوصاف التي جاءت عنه في كتبهم فهم لم يعاندوه ولم ينكروا رسالته فقط، بل كفر فريق منهم بما ذكِر عنه في كتبهم التي يؤمنون بها وكأنما لم يردْ فيها شيء عنه، وكأنهم لم يطلعوا عليها ولا علموا بها. ويتابع الحق سبحانه قِصصهم مع الأنبياء التي سبق ذكر بعضها فيذكر قصتهم مع نبي آخر هو سليمان الذي كان نبيا ورسولا، فأنكروا عليه ذلك وصدّقوا ما قالته عنه شياطينهم من أنه إنما كان ساحرا كافرا، وأن سحره هو الذي جعله ملِكا، وبه سيطر على الجن والطير والرياح وأقام بها مُلكه، ولم يسخرها له الله كما يدّعي. ونفى الله عن سليمان الكفر، وأعلن أن الكافرين هم أولئك الذين كفّروه وأخذوا يتعلمون السحر الشيطاني ويقولون عن أنفسهم إنهم ليسوا كفرة بل سليمان النبي الرسول هو الكافر. وبدلا من أن يتّبع اليهودُ سليمانَ فضلوا عليه اتّباع الشياطين الذين أوحوا إليهم بالكفر وإطلاق الأكاذيب على رسالته، وقال بعضهم عن الله وسليمان إن الله هو الذي أنزل على سليمان السحر الذي كان لديهم علم عنه وعمّا أنزل ببابل على هاروت وماروت اللذين كانا يعلمان السحر للناس، لكنهما كانا يُحذران الناس من سحرهما ويقولان حَذار إنما نحن فتنة فلا تكفروا بالله. ولكن الناس لم يعملوا بنصيحتهما فتعاطوا السحر المفسد المخرب الذي يفرق بين الزوجين ويحدث بينهما الشقاق الذي يؤدي إلى افتراقهما وتشتيت شملهما. وهذا بعض ما يفعله السحرة المحترفون المغضوب عليهم من الله الذي ينكر عليهم ما يعملون. يفعلون ذلك ويعلمون أن من يتعاطى السحر لن يكون له حظ في نعيم الآخرة. ولو أنهم استقاموا وآمنوا واتقوا لأثابهم الله بالخير الكثير، ولكان ذلك خيرا لهم وأفضل من السحر. هذا لو كانوا يعلمون. ***** آيات: {من كان عدوا لجبريل} إلى قوله تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون} مسلسلُ مجادلةٍ ومحاجّة لليهود، وردٌّ على مقولاتهم، وتصحيحٌ لمواقفهم التي جعلت منهم كفارا، وحادت بهم عن الطريق المستقيم الذي لو سلكوه لكان لهم فيه خير ومثوبة (ثواب). وتضمنت هذه الآيات أيضا حلقات من تاريخهم تبين بالرجوع إليها أنهم كفروا بالأنبياء السابقين. ***** {نزّله على قلبك}: استعمال لفظ نزّل وأنزل وما اشتُقّ منهما كثير في القرآن. والمراد به إنزال القرآن على محمد (عليه السلام). والإنزال أو التنزيل يكونان من أعلى إلى أسفل. والقرآن مُنْزل من الله على عبده. والتنزيل هو عملية تبليغ القرآن من الله لنبيه. ومن ذلك أيضا نزول القرآن، وأسباب النزول: نزول الآيات والسور على محمد الموحى إليه بها. وبعد لفظ نزّل وما اشتق منه تأتي أداة الجر تالية للفعل أو المصدر، وتختلف على حسب السياق: {وأنزلنا إليك الذكر}. {ونزّلنا عليك الكتاب}. {هو الذي أنزل عليك الكتاب}. و{نزَل به الروح الأمين}. ولست متفقا مع مقولة بعض النحاة: حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. فكل حرف منها له دلالته الخاصة. ولا يجوز القول (مثلا) نزل من تحت إلى فوق بدلا من نزل من فوق إلى تحت. ونزّله على قلبك له دلالات: فتضعيف الزاي يعني أن المنزَّل صعب ويثقل على المنزل إليه حمله. (وزيادة المَبْنى تدل على زيادة المعنى). وهو ما جاء في سورة المزمل/الآية 5: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}. وروى عدد من الصحابة ومنهم عائشة أن النبي كلما تلقى الوحي احمرّ وجهه وغمرته قطرات عَرَق يشبه الجُمان (حبات اللؤلؤ)، لا تنقطع إلا لحظة نهاية النزول. ورُوي عن زيد بن ثابت (وهو صحابي لازم النبي وعاشره عدة سنوات) قوله: كنت أكتب ما ينزل من الوحي على رسول الله بمجرد ما ينزل عليه. وكان إذا بدأه الوحي أخذته بُرَحاء (سخونة في الجسم) شديدة، وعرق عرَقا شديدا مثل الجُمان. وكنت أكتب ما أسمع منه فما أفرغ حتى تكاد رجلي تتكسر من ثقل الوحي. وكنت أقول لن أمشي على رجلي أبدا. وزاد يقول : ونزلت على رسول الله سورة المائدة وهو راكب على ناقته فكاد ينكسر عضدها لولا أن الوحي انتهى. ***** {ونزّله على قلبك}: (لا على لسانك) فما يقع في القلب لا يزول، أي نزّلناه عليك ففهمته ووعيته. ***** {لما بين يديه}: لما تقدم وسبق، كوصايا موسى وصحفه، والإنجيل الذي جاء به عيسى. و{نبذه فريق منهم}: النبذ طرح الشيء من اليد، أي التخلي عما التزموا بالمحافظة عليه من العهود والمواثيق. ***** {كأنهم لا يعلمون}: كما لو كانوا ما علموا ولا سمعوا بما التزموا به. وهم في الحقيقة إنما استدبروا كلام الله ووضعوا كتابه وراء ظهورهم أو أنهم تصرفوا مع الكتب السماوية كما لو كانوا يجهلونها أو يجهلون صدق ما جاء فيها. ***** {واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا يعلمون السحر}: بدلا من اتّباع كلام الله اتّبعوا ما تتلوه أي تقوله أو تتقوّلُه الشياطين عن طبيعة ملك سليمان وأسلوب أدائه في تصريف الحكم بوسيلة السحر. وروى ابن إسحاق أنه لما مات سليمان كتب شياطين (من الإنس) مجموعة خرافات علموها للناس، وقالوا إنها سحر سليمان الذي أقام به مملكته، وعلى من له حاجة يريد قضاءها أن يستعمل ما كتبته الشياطين، ووضعوها في غشاء وختموه بخاتم يشبه خاتم سليمان ونسبوه إليه ودفنوا ذلك في التراب ودلّوا الناس على موضعه، فأخرجوه وقالوا إنهم اكتشفوه. وقال اليهود إثر ذلك إن سليمان كان ساحرا وتم له الملك بسحره. ورد الله عليهم في هذه الآية ونزَّه نبيه سليمان عن تعاطي السحر لأنه لم يكن يكفر بالله وما اتخذ قط السحر إلها. والكفار الحقيقيون هم شياطين السَّحَرة الذين يُعلّمون العامة السحر وما كان يعلمه للناس ببابل. ***** {هاروت وماروت}: وهما اسمان لرجلين كانا في بابل يتظاهران بالتقوى والصلاح ويقولان عن سحرهما إنه موهبة من الله خصهما بها ويعملان ليرى الناس فيهما صورة مَلَكين لا يعصيان الله ولا يعملان ما ينهى عنه. ويقولان لمن يعلمونهم السحر إنما هما فتنة أي اختبار من الله لمن يُعلّمانهم هل يكفرون بالله أم يتمسكون به، وينصحانهم أن لا يكفروا. وأظهر الله سرائرهم في هذه الآية، وقال عنهم: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون السحر}. وكوَّنوا تلاميذ لهم أدخلهم الله في جمع الشياطين. فالمُتعلم في مدرسة الشيطان شيطان. وأفضّل هذا التفسير (الذي اعتمده بعض المفسرين) على ما عداه، لما جاء فيما عداه من تمحُّلات وتعقيدات. ويُشوّش على التفسير المذكور أعلاه وصف هاروت وماروت بالملكين (بفتح اللام) فلا يمكن لهاروت وماروت أن يكونا شيطانيْن ومَلَكيْن. ويردّ من يرفض هذه التفسيرات بالقول إن لفظ الملكين (بفتح اللام) قرئ في قراءات أخرى بكسر اللام لا بفتحها، وإن هذه القراءة أفضل وأصح. ويزيدون أن هاروت وماروت أصبحا ملِكين (بكسر اللام) سائدين في بابل باستيلائهما على عقول من كانوا يتعلمون السحر عنهما. ***** {وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله}. هذا حكم على السحر والسحرة بأن سحرهم لا ينفع ولا يضر. لأنه لا يقع في الكون إلا ما يريد الله ويأذن به. الإسلام والسحر ونختم دراسة هذه الآيات بما جاء من الأقوال والأحكام في الإسلام عن السحر والسَّحَرة. وقد اتفق العلماء على أن من اعتقد أن السحر مؤثر فهو كافر، بل مشرك مع الله السحر. وهو ما لا يغفره الله. وأدان الله السحر إدانة شديدة وأعلن حكمه عليه في قوله تعالى: {ولقد علموا لمن افتراه} (والافتراء هو الكذب الصُّراح. (وهنا يعني الافتراء على الله والإشراك به). ***** {ما له في الآخرة من خلاق}. وهذا يشبه ما نقوله بلغة العصر: عمل لا أخلاقي (لا يرضى عنه الله ولا المجتمع). ***** {ولبئس ما شرَوْا به أنفسهم}: (باعوا به أنفسهم) لو كانوا يعلمون. ونفى عنهم الإيمان والتقوى وأوعدهم بالحرمان من مغفرته وثوابه فقال في ختام الآيات : ***** {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمَثُوبة من عند الله خير لهم لو كانوا يعلمون}. لقد كان السحر شائعا ومنتشرا في الجاهلية، وكان يعتمد على الحسابات الفلكية، ما يعني أن من مخلفات عبادة الكواكب والنجوم. كما كان السحرة يقولون عن أنفسهم إنهم يتحكمون في الجن ويُسخّرونهم للأغراض التي يعمل السحرة لتحقيقها من شفاء المرضى، وتحبيب القلب إلى القلب، وتكريه البعض في البعض، وامتلاك الحظ السعيد. ويصنع السحرة تمائم يطلبون ممن يلجأ إليهم تعليقها عليه. واختلف العلماء المسلمون في حكمه فقال البعض إن السحر حق، وليس خرافة أو شعوذة أو تضليلا كما وصفه بذلك علماء آخرون واستدلوا على ذلك ببعض الأحاديث. لكن الإسلام في خطابه القرآني والسني ندد بالسحر ونفى عنه القدرة على التأثير. وشدد بعض الفقهاء على وجوب معاقبة الساحر. وقال عنه الإمام مالك : يُقتل الساحر ولا يُستتاب إذا كان مؤمنا. وجاء في المنتقَى للباجي قوله : قال الإمام مالك عن السحر إنه كفر بالله وشرك، وشبّهه بالزندقة التي يَتَستَّر صاحبها بها. والساحر يتستر بسحره هو أيضا. واتفق أبو حنيفة مع مالك على هذا الحكم وقال بذلك الشافعي أيضا.