شقوق ترصع ببشاعة سقف القبو المظلم، قطرات مياه تنساب منشدة نشيد الحزن الرتيب...ورائحة عطنة تداهم أنفها الواقف على ثغرها المجاهد... تغالب الإحساس بالغثيان ويغلبها، فتستفيق من وسن غامر ينشب أظفاره فيها... لتستسلم لهذيان مؤرق يسلبها الشعور بالمشاركة في الوجود الحقيقي. الوقت فقد هويته و ماهيته منذ زمن بعيد لا تعلم مداه... منذ أن أرغمت على دخول مدرسة إصلاح الأفراد المخطئين... ضحكات وقهقهات...مدى تغوص في عمقها المشروخ... تغالب صورة المأساة، وتدافع رغبة تلك الصورة في أن تقتحم وجدانها عنفا، وترسل بشظاياها القاتلة تباعا إلى مخيلتها المحتقنة الراغبة في الاسترخاء... صرير...وصوت انفتاح دفتي الباب...هنيهة...و استقرت صورة البشاعة متربعة منتصرة شامتة تغتال الرغبة في التفلت من آلام لا حد لها ولا نهاية. ضحك...و صرخة كبرى، وشهيق وبكاء وتذلل واستعطاف... وضحكات أخرى تختم حلقة الخبث والحقد الممتدة جذوره عبر التاريخ... قشعريرة غزت جسمها المصفد بأغلال الذل والعار والحديد والجلد وحتى اللدائن. قيود مرئية وغير مرئية تتفانى في إثبات القدرة على الإيذاء...وتمعن في التكالب على إظهار الوفاء للمستخدم الوحش...الوحش الراغب في الإجهاز على آدمية الإنسان إن خالفه في الفكر أو الانتماء. قطرات الماء اللزجة الممهورة بفتات الفضلات البشرية تتناسل عبر الشقوق، والروائح مصرة على اقتحام فتحات الأنف الرافعة راية الاستسلام. شيء ما شبه سائل غزا بلعومها المختنق، ورذاذ حامض انبعث عنفا وتساقط على صدرها العاري، ثم اختلطت جداول وجداول على مساحة الأرض الرطبة الممعنة في التمسك بكتل القذارة المتراكمة. و ضوء خافت...شبه ظلام يخنق بؤبؤ العين... ويريحها في آن واحد إذ يمنع عنها مشقة التمعن في عمق الواقع المأفون... القيد البلاستيكي يعانق في حزم وثبات معصميها الشبه مترهلين... والألم المتجذر تتصاعد وتيرة غزوه لمفاصلها المتآكلة بفعل الرثية... لم تمنع كهولتها فرسان الحرية من أن يذيقوها حصة دسمة مما جادت به أريحيتهم كحراس لحقوق بني آدم في زمن إنسانية الأقوى والأصلح للبقاء. توقف الزمان بعد توقفه... وانبطح صمت مريب في الزنازين المجاورة يخنق الحركة. المعذبون استكانوا للذة ابتعاد الجلادين لهنيهات... يستمرأون خلالها تجرع نخب الإحساس بعدم تصاعد وتيرة آلام الجسد واحتفاظها بمستوى واحد رتيب، ولو أن آلام النفس على العكس من ذلك تتعاظم أمواجها دوما في اتجاه التصعيد، مما يحدث نشوة قد يعذب احتساء رحيقها، إذ تشعر بالرغبة في رد الفعل، وتنعش حياة الضمير الراغب في الانتقام والاستعلاء على جحيم المهانة والإذلال... إذ يعذب المعذب نفسه أن هو أحس بأنه استكان فعلا...استخف فأطاع الباغي... فاستحق أن تؤثث ذاكرته بسجل موجع من عذابات ومعاناة المستضعفين في الأرض. صوت المزلاج قعقع مزمجرا...صرير وانفتح الباب...وجه باهت وشعر أشيب مع بقايا صبغة تقاوم الاندثار. وضعت الإناء المعدني، أو بالأحرى رمته، فتطاير رذاذ أصفر بلون الوسخ، فانتشر مضيفا شيئا ما إلى اللوحة الموشومة على البلاط. وجه أصفر وأسنان اسود عاجها بفعل الدخان، وجسم ضخم يتوسط جيده حزام عسكري: أتت من بلاد الحرية...نصب رفعوه لها في بلادهم،و فوق أرضهم، واجتثوا ما وجدوه من جذورها قائما في بلاد الغير... رفعت يديها المكبلتين تحاول أن تستر شيئا من عورتها المكشوفة دون جدوى... فانطلق ضحك هستيري تناسلت أبعاده مجلجلا تزهر في ثنياته أشواك حقد تمتد إلى زمن الصليبيين. تراءت غمامة عطف وأسى في أعين المساعدة العميلة، لكن نظرة من السيدة كانت كافية لإجهاضها، فانهمرت قطرات غيثها سباب وشتم حتى تكون أكثر ملكية من الملك. انفجر صوت ارتطام الباب الحديدي بعد ذهابهما، واندلع معه لهيب سياط المهانة في تهافت محموم من أجل التكالب على لسع باطنها المتهرئ المكلوم. وشاية من أحد أعوان الظلمة أخذت بها إلى أتون جنة الديمقراطية،والتهم :تمج الاحتلال...و تكره المستعمر... تعادي السلام...تحرض على الانعتاق...تحلم بامتلاك هوية ...و ترفض التبعية... تهم تتناسل وتتشابك، لكن لا محكمة ولا محامي ولا دليل إدانة...فقط سجن... قمع...قهر...وسجانون... اضطرم فكرها بعذابات الانغماس في لجة التفكير،وهدير غمر رأسها المشجوج، فاندلقت أنهار أوجاع تشعبت في جسدها العاري المغلول... الكاحل الأيمن المتورم ينفث زخات الألم المتصاعد وتيرته بشكل يثير الرغبة في الإغماء...والجرح قرب العين غائر غطته أشلاء أديم ممزقة تكتلت حول بؤرة صفراء باهتة تنضح بالدم والصديد. ازداد حماسها منذ مدة رغبة في إعدام وعيها المشلول... تلاشت قواها، و حلم جميل قد راود فكرها المكلوم... يخطو برفق... ويخشى استرداد الوعي فيطرد من جديد... أو يمكن أن يقبر الاستسلام لليأس والارتماء في أتون الضعف مأساة الضياع؟ فيحل السلم بعد الحرب... ويسود العدل بعد الجور...وتأتي المعافاة بعد المرض ؟ وانتشر الخوف تيارا موجعا في أوصالها، تلته قشعريرة هزت كيانها المحموم الآيل للانهيار... انتفضت فجأة... فانتشت الأنا الحية المتيقظة القابعة في عمقها... وانتعشت... إذ لم يخفت نور بريقها أبدا، فطل الإيمان المتجدد الغامر يكنس ران الهوى من حناياها بحمد الله كل حين،وما تواجدها بين براثن البغي إلا دليل على تغلغل اليقين في مفاوز نفسها المطمئنة الآمنة بمعية الله رغم وحشة السجن الموحش المقفر. سعادة تبدت آثارها على قسمات وجهها المتعب...و رذاذ رضا تناثرت قطراته سكينة على باطنها المجهد...فتحول الألم إلى وسن استبد بها فاستسلمت... فلعلها تظفر بحلاوة البعد عن بشاعة الواقع ولو لوقت يسير...