يواجه الدعاة إلى الله دوما وفي كل عصر حزمة من التهم لا أساس لها من الصحة، وربما اجتمعت هذه التهم اليوم كما لم تتجمع في أي عصر، خاصة وأن عصرنا جمع كل العصور بما لها وما عليها، وجمع كل الأقطار كما لم تجتمع من قبل، وصارت الدعوة إلى الله دعوة عالمية ولو كان القائمون بها لم يغوصوا في مجاهل أفريقيا أو كهوف أفغانستان، أو في جبال الهملايا، أو في غابات الأمازون، أو في أي فج عميق. أقف اليوم عند تهمة تتردد كثيرا على ألسنة النخبة المثقفة كالكتاب والمثقفين والإعلاميين، وعلى ألسنة العوام الأميين، وهي قولهم للدعاة عندما تقلقهم الدعوة بأسئلتها الوجودية والأخروية: أأنتم أوصياء على الناس حتى تقتحموا عليهم عوالمهم، وتنغصوا عليهم راحتهم، وتسمعوهم مواعظكم وكلماتكم وتوجيهاتكم؟ دعوا الناس وشؤونهم، إنهم عاقلون مريدون مختارون؟ والحق أن كلامهم هذا فيه كثير من الصواب وقليل من الخطأ. فمن الصواب أن الناس عاقلون مريدون ومختارون، ومن الصواب أن ندع الناس في شؤونهم فلا نتدخل فيها، فهم في النهاية مسؤولون أمام ربهم ومحاسبون مجزيون. ومن الصواب كذلك أن الدعاة ليسوا أوصياء على الناس، وما كان نبي من الأنبياء ولا رسول من الرسل وصيا على أحد. فهم لم يبعثوا ليقفوا على رؤوس الناس ينتظرون منهم الاستقامة كرها، ولم يجرد أحد منهم سيفه مهددا إياهم بالقتل أو الدخول في الدين، بل لم يحمل منهم أحد سيفا إلا عندما اضطر ليدافع عن نفسه، و(كم من نبي قتل، معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استقاموا). أليس القتل والاغتيال بعد السخرية والاعتداء والإكراه كان مصير كثير من الأنبياء وكثير من الربيين والحواريين. ألا نعلم جميعا قصة إحراق إبراهيم عليه السلام، وتهديد لوط ونوح وعيسى وموسى وغيرهم بالتصفية الجسدية والإبعاد والتهجير أو السجن والتعذيب. كل ما كان الأنبياء يملكونه هو الكلمة الطيبة القوية النافذة الساحرة، بها يمشون في الأسواق والتجمعات، وبها يخاطبون الناس ويجادلونهم، وبها يحللون واقع عصرهم وقريتهم ويقدمون الحلول الجذرية لمشاكل الناس وأزماتهم، ويجتهدون في إيصالهم إلى الحياة الطيبة السعيدة التي تعتبر هي الأصل، كما تعتبر الأزمة هي الأمر العارض. أي أن الأنبياء في نهاية المطاف ليسوا سوى شهداء على الناس: يشهدون عليهم وعلى واقعهم، يشهدون أنهم قد بلغوا رسالة ربهم وأقاموا الحجة وأبرؤوا الذمة. قال نبي الله عيسى المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام في ما ذكره عن القرآن الكريم:(وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم). وبناء على هذا، فإن كل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أتباع لهؤلاء الدعاة الكبار المؤيدين بالوحي. هم إذن كذلك شهداء على الناس وليسوا أوصياء عليهم،(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). والشهادة على الناس ليست وصاية على الإطلاق، إنها القول البليغ والبيان الساحر والحجة القاهرة والتحليل السديد لا أكثر ولا أقل، وذلك في جميع مجالات الحياة، التي يصنفها المصنفون إلى حياة سياسية وأخرى غير سياسية، فيغلقون الباب أمام الدعاة باسم السياسة والعمل السياسي، أو باسم الفن والعمل الفني. وطبعا ليس للدعوة شكل واحد ولون واحد، بل لها أشكال وألوان ومجالات تتسع لجميع مجالات الحياة. ولعل أخطرها اليوم الجانب الفني (الصورة الطيبة) والجانب الإعلامي(الكلمة الطيبة) والسياسي(الخدمات الطيبة) والاقتصادي(الأموال الطيبة). الدعاة إلى الله شهداء على الناس وليسوا أوصياء، وكثيرا ما يتهمهم من يحبون أن يبقوا هم الأوصياء الأقوياء الأغنياء.