لعل أعقد مصطلح في الفكر الإسلامي هو مصطلح الحق، خاصة وإن إحالته المفهومية تجعل الذهن متوزعا بين دائرتين، وتحصر الأفكار بين اختيارين. فالحق يفترض وجود الباطل، والمرء لابد أن يكون على أحد الطريقين. ومن ثمة فمقولة الحق والباطل تنتج آلية فرز خطيرة، تصنف المجتمع إلى طائفتين، وتسمح بإنتاج مفاهيم تحدد العلاقة بين الطرفين، فتثبت تميز أهل الحق على أهل الباطل، وأحيانا تنتج مفاهيم أخرى كالتكفير والتفسيق وغيرها من المفاهيم الشرعية التي تأخذ دلالتها وفق ضوابطها وسياقها الشرعي. الحق والباطل مقولتان عقديتان تفصلان المعتقدات والتصورات الوجودية إلى أهل إيمان يعتقدون بوجود الله، ويؤمنون بأركان الإيمان، وبجميع الغيبيات واليقينيات، وأهل كفر يحددون منهجهم في النظر، وينفون وجود الخالق، ويضعون أنفسهم على مسافة كبيرة من المعتقدات والغيبيات واليقينيات، ويعتمدون العقل والحس أداة للنظر والتحليل. مقولة الحق والباطل إنما تأخذ مكانها ضمن هذا الإطار، ولا يجدر بها أن تتجاوزه إلى غيره، لأن عناصرها ومحدداتها لا تصلح أن تشتغل إلا ضمن هذا النسق، ولو أنها انسابت إلى فضاء آخر مغاير لأحدثت كوارث في الفكر والسلوك. وقد تأثر علم الكلام كثيرا حينما أدخل مقولة الحق والباطل إلى موضوعات، للعقل مجال في إدراكها أو توجيهها. فالتعامل مع الصفات إجراء لها على الإثبات أو تأويلا لها على التنزيه، لا يجوز- في اعتقادي- أن تفصل فيه ثنائية الحق والباطل. وإذا كانت بعض الموضوعات الأشد ارتباطا بالعقيدة تأبى تدخل ثنائية الحق والباطل فيها، ففروع الدين، وموارد الاجتهاد فيه- الأوسع فضاء ورحابة - لا تقتضي فقط منع هذه الثنائية للتسرب إلى فنائه، وإنما تقتضي الإجماع على جعل المستعمل لها في هذا الحقل فتانا للأمة، مفرقا بين مكوناتها، مهددا لنسيجها، مزعزعا لوحدتها. فمقولة الحق والباطل لا يجوزأن تتسرب إلى فروع الشريعة وموارد الاجتهاد فيها. فهذه مجالات للإبداع والنظر، والتأمل والتدبر، والمجتهد في ذلك مأجور على بذل الجهد، ومأجور على الإصابة، فلهذا كانت قمة العقلانية في الإسلام أن يؤجر المخطئ، وهو ما لا يوجد في أي طرح بشري، ذلك أن الإسلام يهمه تشجيع مناخ الفكر والتدبر أكثر مما يهمه مجرد الإصابة في الرأي. حين تتسرب مقولة الحق والباطل إلى المجال الأوسع الذي يملك العقل فيه أن ينطلق ويتدبر، يدخل الحجر على الفكر، ويخاف المرء من التحليق البعيد خوفا من الوقوع في دائرة الباطل، خاصة إذا تحركت مفاهيم أخرى مثل مفهوم التكفيرلتشتغل بعنف لقمع الأفكار والحجر عليها. تتبنى الجماعات المتطرفة ثنائية الحق والباطل، وتسعى بكل جهدها لاستصحابها ليس فقط لتقويم عقائد الناس، والحكم على كفرهم وابتداعهم، وإنما في تقويم آراء الناس الاجتهادية التي لا توافق ما تواضعوا على تبنيه، وكذلك مواقف الناس السياسية التي تتعارض مع اخياراتهم التي جنحوا لها. حينها تنتج هذه الثنائية الخطيرة مفاهيم التفسيق والتضليل والتكفير، فتصبح مكونات الأمة وفعالياتها وأحزابها ومؤسساتها في خانة واحدة، هي دائرة الباطل، بينما تتربع الجماعات المتطرفة على عرش الحق. مطلوب من علماء الأمة أن يقوموا بجهد معرفي يميزون لأفراد هذه الأمة مجالات هذا الدين، ويشرحون للناس عقائدهم، ويفرقون لهم بين عباداتهم وعاداتهم، وما يكون الاجتهاد فيه مطلوبا مأجورا، وما يكون فيه النظر بدعة وضلالا. إنها فتنة فكرية كبيرة تنام أعين العلماء عن تجليتها لجمهور الأمة، فتجد عوام الناس يتجرأون على العلماء بالتفسيق والتضليل بناء على بعض آرائهم الاجتهادية. وأنى لهم العلم، وقد تلقفوا ذلك من بعض الغلاة ممن لا يميزون بين المقاصد والوسائل، ولا يفرقون بين العبادات والعادات، ويجعلون نصوص الشرع على قدم السواء في الدلالة، فيفتنون ويزرعون الألغام التي قد تتحول في يوم من الأيام إلى قنابل حقيقية تعتدي على حياة الناس، وتخلق المآسي والأحزان. جهد ليس بالكبير ينتظر علماء هذه الأمة ودعاتها، والحركة الإسلامية مطلوب منها أن تساهم بقدر وازن في هذه التوعية الفكرية والمنهجية، وأن تركب قطار الترشيد ليس فقط لأبنائها والمقربين منها، بل ينبغي أن يتحول خطابها إلى الشعب لمناهضة مثل هذه النزعات، حتى ولو اضطرت أحيانا أن تركب الشعبوية، فمعالجة هذا الداء العضال الذي بدأ يهدد هذه الأمة، ويهدد أيضا هذا الدين، يفرض أن نتوسل الوسائل الضرورية لبلوغ القصد، حتى ولو تنازلنا حينا عن ثقافتنا العالمة، وركبنا أسلوب الشعب، فهو الأقدر على البيان والتأثير.