المغاربة قالوا: نعم للكرامة ولا للفتنة لأن الفتنة أشد من القتل نقول أولا : إن السيد محسن فكري رحمه الله شهيد ان شاء الله لما ورد في الحديث النبوي الصحيح المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الشهداء خمسة : المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله " رواه ابن ماجه وأبو داود ثانيا : نقول ثانية إن حادثة استشهاد السيد محسن فكري بهذه الطريقة المفجعة والصادمة وما تلاها من تداعيات وردود افعال تستوجب التوقف عند عدد من الدروس والخلاصات : 1- إن ما أثار رد فعل الشارع المغربي انما هو استبشاع لما اعتبر عملية قتل بارد قيل إنها نتجت عن "أمر" صدر من موظف من موظفي الدولة ب"طحن" السيد محسن فكري ، وهو أمر في غاية البشاعة لو ثبت أنه قد حصل فعلا، والأبشع من ذلك أن يكون سائق الشاحنة التي قضى فيها الشهيد قد استجاب دون مقاومة أو تقدير لعواقب فعله وهو على علم ويقين بما يمكن أن تفعله الآلة بجسد إنسان، لكن المنطق الفطري البسيط يستبعد امكان حصول هذا ، المنطق الفطري البسيط يستبعد من مواطن مغربي بسيط قد انغرست في ثقافته فكرة " الروح عند الله عزيزة "، أن يمتثل لأمر من هذا القبيل لو افترضنا ان حكاية " طحن مو " حقيقية وليست محض اختلاق !! ولعلها هي الوجهة التي يتجه فيها التحقيق الذي يبدو أنه استبعد من جهة، وجود أمر من هذا النوع ، فضلا عن استبعاد أن يكون السائق قد حرك آلة الطعن ، حيث إن دور السائق يتمثل في الضغط على زر يوصل التيار الكهربائي وأن تحريك آلة طحن الأزبال يتم من خلال زر يوجد خلف الشاحنة كما يمكن أن يعاين كل مواطن في شاحنات التطهير الصلب التي تجوب احياءنا . 2- وبعيدا عن حكاية "طحن مو" الذي لا يوجد لحد الساعة ما يفيد صدورها أصلا ، فإن حادثة مقتل الشهيد " محسن فكري " قد كشفت عن اختلالات واضحة في المنظومة الإدارية وتجاوزات كبيرة على مستوى تطبيق القانون ، إذ يبدو أن خرق قوانين الراحة البيولوجية أمر جار به العمل ، وأن العمل الذي كان مصدر عيش السيد محسن فكري ليس سوى جزء صغير من منظومة متكاملة من الفساد والخرق للقانون، بدءا بالسفن التي تصطاد صيدا غير شرعي ومرورا بالشحن غير الصحي والنقل والتسويق والبيع في مدينة أخرى هي مدينة طنجةً بطرق أقرب ما تكون إلى عمليات تهريب ، وهو ما يطرح سؤالا كبيرا حول هذه المنظومة المتسلسلة من الثغرات ، وقدرة عمليات مشبوهة على القفز على عدد من نقاط المراقبة !! إن هذه الحادثة الأليمة تعيد إلى أذهاننا الأهمية القصوى لما ورد في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الولاية التشريعية العاشرة ، والذي وضع اليد على أحد مكامن الداء التي تعوق تقدم البلاد وتفوت فرصا كبيرة لتنميتها ألا وهو الإدارة ، حيث إذا كان من غير الموضوعي إنكار التضحيات والجهود التي يقوم بها جيش من الموظفين المخلصين الذين نرى حركتهم الحثيثة يوميا في الإدارات ، فإن ذلك لا ينفي ما أصبح معروفا عن الإدارة المغربية كمنظومة تشهد الممارسة اليومية فيها فضلا عن تقارير دولية ووطنية – أنها تعاني من البيروقراطية وضعف المردودية وضعف التحفيز ، وحيث التقدم في السلم الإداري والمكافآت لا يرتبطان بالمردودية ، وإنما يتمان بطريقة اوتوماتيكية يستوي فيها الموظف المجد بالموظف المتهاون ، مما يشيع نفسا من الاحباط وعدم الجدوى من الاجتهاد او التكوين المستمر لتحسين والرقي بالكفايات المطلوبة ، وحيث المواطنون المرتفقون هم آخر همها ، ناهيك انها في حالات اخرى قد تحولت الى معطل للإصلاح ومعرقل له ، بسبب ان بعض مفاصلها اصبحت تتقاطع مع خدمة توجهات سياسية تحكمية ، بدل ان تكون اداة رهن اشارة الحكومة وتنفيذ سياساتها كما هو مقرر دستوريا . حادثة استشهاد محسن فكري إذن تجعل من إصلاح الإدارة أولوية الأولويات ، وهي ناقوس خطر ينبه الجميع أن تواصل مختلف مظاهر الخلل المشار إليه سابقا – فضلا عن عرقلته لمشاريع الإصلاح وخطط التنمية – ، يمكن أن تنتج عنه فواجع كبيرة تعتبر حادثة محسن فكري نموذجا مصغرا عنها . 3- ينبغي أن نسجل أيضا أن الحراك الاجتماعي الذي نتج عن هذه الحادثة ، وبغض النظر عن بعض الجهات التي حاولت الركوب على الحادثة لأغراض اخرى لا علاقة لها بالتضامن مع أسرة الشهيد وعائلته والمطالبة بالقصاص القانوني من المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عنها ، يعتبر في حد ذاته حراكا طبيعيا وصحيا ما دام الطابع العام الذي غلب عليه هو الطابع السلمي ، وما دام مقصده ومحركه مطالب مشروعة بفتح تحقيق نزيه وكامل والبلوغ به إلى أقصى مداه ، وترتيب ما ينبغي عن ذلك التحقيق من نتائج . وفي المقابل فإن التوجيه الذي أصدره الأستاذ عبد الاله بن كيران باعتباره رئيسا معينا للحكومة وأمينا عاما لحزب وطني مسؤول ، هو أمر عادي وطبيعي ، فهو اختيار له حيثياته وتقديره ، ذلك أن موقع المسؤولية الحكومية ليس موقع المواطن العادي الذي قد يختار التعبير عن مواقفه ومطالبه التظاهر في الشارع ، موقع المسؤولية الحكومية يحتم سلوكا آخر ليس الخروج الى الشارع مع الخارجين ، بل هو موقع الأمر بفتح التحقيق سواء في ابعاده القضائية أو الإدارية للبحث عن المسؤولية الجنائية فيما وقع ومتابعة المسؤولين في القضاء انصافا للضحية وأهلها، ، ثقة في مؤسسات الدولة وفي مصداقية التزامها بفتح تحقيق نزيه وجدي وترتيب العقوبات التي تقتضيها النتائج التي أفرزها ، ناهيك عن أنه نابع من حدس سياسي توقع احتمال استغلال هذه الحادثة من قبل مجموعات تسعى لإثبات استمرار وجودها في الساحة السياسية من خلال القفز على كل فرصة للتأزيم والتوظيف السياسي سواء من منطلقات وأهداف تحكمية ، أو من خلال نهجها العدمي الذي يقوم هو الآخر على انتهاز كل فرصة للمساس بثوابت الأمة ووحدتها الوطنية ونظامها الدستوري . قدم موقف حزب العدالة والتنمية – إذا كان الامر يحتاج من جديد إلى ذلك – دليلا على انه حزب وطني مسؤول ، وان استقرار الوطن ومعالجة مشاكله والمظالم التي يمكن ان تقع على المستضعفين من شعبه تعالج بالتبصر والحكمة في نطاق تفعيل مقتضيات الحق والقانون ، ولا تعالج بالانفعالات والشعارات الشعبوية وحملات مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن ان تجد فيها الشيء ونقيضه ويتحول فيها الكل إلى شاهد إثبات وقاضي تحقيق ومحكمة ، ومن خلال المصادرة على المطلوب والتشكيك في النوايا وفي المؤسسات ، وحبك سيناريوهات تخمينية لا تثبت أمام دليل !! 4 – كشفت الحادثة وتداعياتها أن المجتمع المغربي على درجة كبيرة من النضج السياسي ، إذ بالقدر الذي عبر فيه المغاربة عن صدمتهم من الحادثة وخرجوا للمطالبة بإنصاف الضحية ومعاقبة المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن مقتله ، فإنهم عبروا عن رفضهم للركوب على القضية والمتاجرة بدم الشهيد لإثارة الفتنة والنعرات الطائفية والانفصالية والمساس بأمن البلاد واستقراره ، ظانين أنه يمكن تحويل "محسن فكري" الى "بوعزيزي حسيمي" . لقد خاب سعي هؤلاء وسيخيب سعيهم دوما ، لأنه بقدر اجماع المغاربة وعلى رأسهم ملك البلاد على استنكار هذه الفاجعة والمطالبة بالقصاص العادل في حق كل من تورط فيها مباشرة او بطريقة غير مباشرة ، بقدر رفضهم للأصوات النشاز التي استغلت التظاهرات لرفع شعارات انفصالية او مواقف سياسية عدمية وهامشية . المغاربة بذكائهم وحدسهم وقراءتهم لما جرى ويجري في المنطقة العربية ، حساسون للظلم ويرفضون "الحكرة " ، المغاربة يريدون الاصلاح ومصرون عليه ، لكنهم يعتقدون أن الاستقرار مقدم عليه وهو شرطه الأساس . المغاربة بذكائهم يرفضون الإهانة وسيواصلون بطريقتهم الخاصة بناء مناعة اجتماعية وثقافية وسياسية وحقوقية ضدها بشكل تراكمي ، لكنهم غير مستعدين للتضحية باستقرار وطنهم والمساس بمؤسساتهم مهما يكن لديهم عليها من ملاحظات . المغاربة يرفضون الظلم ويغارون على كرامتهم ولكنهم يكرهون الفتنة لأنهم يؤمنون بأن " الفتنة أشد من القتل".