ها أنا اليوم أقتعد سنونا من العمر دقت الستين، وأنظر بعين الرضى تارة وعين الحزن تارة أخرى، فالعمر يمضي حافلا متنعما بما أودعت الأرض من بذرات يانعات، عنيت بها حد...الحنان.. حد القسوة..! عنفوان الطفولة، وربيع تخضر فيه أوراق الزهر والأشجار، وتجنى فيه أطيب الثمار، أيقنت بعد زواجي وأنا في (الرابعة عشرة من العمر) إنها لن تخضوضر..!ولن يصلها ماء صالح لتنمو غصنا غضا يتهافت عليه الزراع، رأيت الغصن يذبل..والأوراق يستحيل لونها إلى الاصفرار..!ولكني ما زلت أستمسك بتلك العروق النابتة في أعماقي.. طفلة ذات شعر منسدل، و طفل ذو عينين حالمتين..! وكان انفصالا .. عن زوج ... وعن طفلي ذي العيون الحالمة..!!واستبقيت على طفلتي ذات الذوائب السوداء...وكانت الأمل..! كنت حريصة على ذلك العِرق الذي تبقى لي من ذلك الزمن، طفلتي التي حرصت على أن تكون على قدر وافرِ من كل شيء حسب استطاعتي، فما رضيت لها بذل ولا رضيت لها بالتدني، كانت عنقودَ عنب صعبَ المنال، كانت متلألئة تلألئ اللآلئ، في وهج الشمس ووضح النهار..كانت ظفائرها محط إعجابي وشغفي..كانت الأمل الذي استبقيته لي والزرع الذي ما زلت أحصد...كان أبو طفلي تاجرا معروفا ذو ثراء، ولم يكن ذلك فحسب، بل تربطني به صلة دم ..فهو ابن عمتي، كان أبي رجلا بسيط الحال..متكففا متعففا، لم يسع إلى مال أو ذهبِ، كان همه الأول والأخير أن يستر علينا بما تحتمه العادات والتقاليد..حتما لم يتسن لنا التعلم..حتى بسيطه الذي قد يعيننا على قضاء بعض حوائجنا البسيطة..لم أكن لأطلب من أحد أن يساعدني في تربية طفلتي، ولا حتى الإنفاق عليها، لم أكن لأقبل تكفل أحد بدفع أي شيء لها، حتى أبوها..! ربما لم أكن أقبل منه شيئا لها خوفا على أن يستل مني قلبي كما استل مني عيناي ، والذي كلما حاولت أن أراه، أراه يهرب مني..وتهرب معه حرقتي ودموعي..! على النور المنبعث من ذات الأشعة الذهبية..وعلى ضوء خافت في الليل البهيم، كنت أستعين بالله، وبمهاراتي اليدوية التي تعلمتها من أمي، على حياكة الملابس للنساء، مقابل مبالغ بسيطة من المال، حتى أنفق على طفلتي التي أودعت فيها أحلامي وآمالي...كنت أحب العلم حباً جماً، فسعيت لأن تكون ابنتي الصغيرة متعلمة قديرة، كنت أعوض فيها ما أحس به من نقص حيال أميتي..!ولكن ما السبيل إلى تعليم ابنتي؟! كانت منطقتنا الوكرة في الستينيات تفتقد مدرسة لتعليم البنات، حيث خيمت العادات البالية عليها، وحرمت فتياتها من حقوقهن التي فرضها الإسلام فرضا ونسيها الناس عمدا . استطعت بفضل من الله أن أستأجر سيارة لتأخذ ابنتي إلى مدرسة في منطقة الدوحة. في منطقة (أم غويلينة)، وقد تكفل جارنا المرحوم محمد المالكي بتوصيلها إلى المدرسة يوميا وكان اليد الحريصة على ابنتي... في هذه الفترة تنبه رهط من الأمهات إلى أهمية التعليم، ثم تكفل عمها (محمد المفتاح) بنقلها مع خمس فتيات أخريات من بنات الوكرة معها إلى المدرسة، لتكون بادرة تعليم الفتيات في منطقة الوكرة، تعود بفضل الله إلى مبادرتي..! وبعد شهرين تقريبا تقرر من قبل وزارة التربية...تأجير بيت ليكون مدرسة للبنات وكان ذلك البيت ملكا للسيد إبراهيم بن جديع رحمه الله تعالى. لم أكتف بأن تدرس ابنتي العلوم الحياتية فقط، ولكن حرصت على أن تذهب أيضا بعد المدرسة عند المرحومة (المطوعة أم علي الإبراهيم) لتتعلم القرآن الكريم. دق رجل طيب وبسيط الحال باب دارنا، طالبا يدي للزواج، وعليه لم يتوانَ أبي في تزويجي منه وانتقلت للعيش معه في منطقة الدوحة..(منطقة نجمة). حاولت أن أنقل ابنتي لمدرسة في الدوحة لتكون فلذة كبدي بقربي..لكن مديرة المدرسة (الست باسمة فليرحمها الله حية كانت أم ميته)رفضت ذلك، وأصرت على بقاء ابنتي في مدرستها، لأنها متفوقة ومجتهدة، وتعهدت بأن تحضرها كل خميس وجمعة برفقة مجموعة من المدرسات إلى ويأخذنها صبيحة السبت ليعدن بها إلى المدرسة، فظلت ابنتي في بيت أبي، وسكنت بعيدة عن عينيها في الدوحة..! كنت أشحنها بشحنات التفوق والطموح، والأمل والعمل، فكانت محل تقدير واحترام وإعجاب من كل مدرساتها حتى أن إحدى مدرساتها وهي (آمنة العناني)-وتعمل الآن مديرة لروضة البستان في الوكرة -، وكانت تدرسها اللغة العربية بالصف السادس.همست في أذنها يوما : يوما ما ستكبرين، عندها تخصصي في اللغة العربية وتعالي ساعديني كمدرسة للغة العربية! كانت تلك الكلمات كأنها تقال لي، فبقيت تجول في ذهني لا تفارقني. قررت ابنتي المجتهدة أن تقدم ترفيعا للصف الثالث الإعدادي بالعطلة الصيفية، وكانت تعي وأعي الجهد الذي سيأخذ منها راحة جفنيها، ولكن كانت على قدر من العزم والثبات، درست كل المواد بمفردها عدا الرياضيات والإنجليزية والعلوم تكفلت بنات السيدة أم زهير قدورة صاحبة روضة (أم زهير) الروضة الوحيدة في قطر آنذاك، بتدريسها في العطلة الصيفية نضير مبلغ من المال، ونجحت صغيرتي بتفوق. كانت كلما أنهت مرحلة أحس بأني التي تنجح حتى تخرجت من دار المعلمات بتفوق وحصلت على المركز السادس..غمرتني سعادة ذرفت لها أدمعا حرّى..من فرط السعادة، ثم دخلت الجامعة وتخرجت وتزوجت، وأخذت ترتقي مناصب حتى أصبحت مديرة..وهي إلى الآن تعطي في حياتها..كنبع صاف عذب..!ووهبت حياتها لخدمة دينها وأبنائها ومجتمعها..وتربي أبناءها على ما ربيتها عليه..وتغرس فيهم ما غرسته في نفسها من طموح يطاول العنان...وحب للتفوق والعطاء...وتطلع للمعالي يصحب كل ذلك أخلاق عالية وسلوك قويم ...ولكن ؟! ماذا عني وقد طرق الكِبَر أعتاب عمري، هل أبقى حيث أنا، وأحلام الطفولة ما زالت تطرق أبوابي، تحثني على فتحها ؟! التحقت بمراكز لتحفيظ القرآن الكريم منها (مركز عائشة، ومركز خديجة)، وواجهتني متاعب وما زالت تواجهني بسبب عدم معرفتي للقراءة والكتابة، وبفضل الله وصلت إلى الجزء الرابع (وهو جزء الذاريات). كذلك أحرص على حضور مجالس الذكر بالمؤسسات المعروفة وحضور ما أستطيعه من البرامج الهادفة سواء تربوية أو دينية أو توعوية... وأنا من المتطوعات الآن بجمعية قطر الخيرية، حيث أساهم في الملتقيات والندوات والأعمال الخيرية وكل من هم في المجال الخيري يعرفونني. هذي بضع بصمات من حياتي، وأطياف من ذكرياتي محفورة في قلبي ووجداني، لم تنسنيها السنون..! جل ما أتمناه أن يتقبل الله مني كل عمل قمت وأقوم به في سبيله ويغفر لي تقصيري وزلاتي ويدخلني جناته برحمته. هذه بضع صفحات من حياتي أتركها مفتوحة ليقرأها كل من يريد أن يعرف معنى العطاء...معنى الطموح..معنى التضحية...معنى الأمل