يحكي الشيخ محمد السحابي أن بعض طلبة العلم الشرعي سقطوا في فخ الترجيحجهاد أو قتال في قضية الانتخابات الجزائرية وما تلاها من اقتتال داخلي، إذ كانوا يحولون الحلقات العلمية في بعض الأحيان إلى مهاترات في هذا الأمر، ومن الصعوبة أن تعاد الأمور إلى نصابها، ويبقى المسؤول عنها محتارا بين طردهم من حلقة العلم أو مسايرتهم، لكنه يؤكد أن المجاملة في هذه الأمور لا تجب، لأنها فتنة، ومعلوم أن كل فتنة حدثت في العالم تؤثر على الداعية، فالقول بأن الاقتتال جهاد فصاحبه يؤجر عليه وأنمن مات فهو شهيد، وإذا اعتبر قتالا يعاقب صاحبه، لأن القاتل والمقتول سواء. ومرارا حاول السحابي إقناعهم بأن الأوضاع هي بالجزائر وعلماء الجزائر هم أولى بالفتوى فيها، والمسألة لم يطلع عليها علماء وفقهاء المغرب، ولا يعرفون تفاصيلها، ومن شروط المفتي، يقول السحابي، أن يعرف تفاصيل النازلة ويتبين أمرها واضحا، فالمفتي مثل الطبيب، فالطبيب لا يصف الدواء إذا لم يفحص المريض ويحيط علما بنوع المرض، وكذلك الأمر بالنسبة للمفتي، إذ عليه أن يلتزم أنه لا يفتي في ما لا وضوح فيه، لأن الإفتاء مسؤولية جسيمة، وقلت لهم إن الخوض في كونه جهادا أو قتالا لا يفيد أبناء الشعب الجزائري، وعليكم أن تشتغلوا بما هو أهم وهو طلب العلم ومدارسة القرآن، وللأسف قل من يشتغل بهذا. الهجرة والتكفير فكرة دخيلة وفي سنة ,1991 انتشر فكر دخيل على المغاربة ألا وهو فكر الهجرة والتكفير، وقد دخلت هذه الفكرة المتشددة من مصر على يد قائد ممتاز كان بالناظور يدعى السيد الخضر رحمه الله، وقد حكى لي أنه التقى المجاهد عبد الكريم الخطابي في مصر، وعندما دخل إلى المغرب اشتغل قائدا ممتازا، وكان رجلا كبير السن، ومما حكاه لي أيضا أنه كان جالسا رفقة بعض رجال السلطة، وقال أحد الجالسين:والله نحن لسنا بمسلمين فقال الخضر:كيف،أتتهمنا أننا لسنا بمسلمين ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله؟ وتابع الخضر حاكيا: فذكر لي آيات قرآنية وحاجني بها، فظهر لي أن كلامه صواب، فعلمت أنه على حق. يقول محمد شارحا:ولما تقاعد هذا القائد استقر بالناظور، وأصبح مشرفا على القادمين من مصر بهذا الفكر، فلما سمع بي، جاءني زائرا ببيتي بسلا، وأنا لا أعرفه وهو لا يعرفني، ونظرا لأن الرجل كبير السن وحل بي ضيفا فقد رحبت به، وصادف تلك الليلة أن كانت لي مدارسة مع مجموعة من الشباب، فقررت عدم الذهاب لوجود هذا الضيف، فحاولت الاعتذار لهم، فلما سمعني هذا الرجل قال لي: لا والله لا تعتذر فأنا ما جئت إلا لهذا الأمر، وأنا جئت للقاء الناس ولم آت للضيافة والجلوس في البيت، فرحبت بداية بالفكرة، فظهر لي أنه يتكلم في الدين ولم أعرفه حقيقة، وحياء من هذا الرجل أعطيته الكلمة في المجلس، فصار يتحدث في أمور الدين، مستشهدا بأقوال السيد قطب رحمه الله، فكان كلامه في البداية جيدا، وبرهة خرج عن الموضوع، وصار يقول للناس بأن الصلاة لا تجوز في المساجد وكل من صلى في المساجد وكذا صلاة الجمعة، فصلاته باطلة، وذهب إلى أن الحج لا يجوز أيضا، لأن بيت الله الآن ليس بيد المسلمين، فأصبت بذهول لأقواله الغريبة، فنحن لم نسمع بمن يبطل صلاة الناس بالمساجد والاقتصار على صلاة البيوت، ونظرا لنزوله ضيفا عندي بان لي أن من كرم الضيافة أن لا أتكلم معه في حضرة الشباب حتى نرجع إلى المنزل للمبيت حتى لا تقع فتنة، فسكت على مضض بخصوص ما قال. الدرس المستفاد وتبين للشيخ السحابي من خلال هذه التجربة وتجارب أخرى أن الواجب على الإنسان الداعية أن لا يمنح الكلمة لمن لا يعرف ولو كان ضيفا، واعتبر ذلك انزلاقا وقع فيه، لأني، يقول محمد، لم أكن أعرف أفكاره، وأحيانا يكون الحياء وكذا المجاملة في غير محلهما، فلو لم أرخص له الكلام فهو لن يتكلم ولا يمكنه أن يقول ما قاله في ذلك المجلس، وسبحان الله، فالرجل كانت فيه جرأة على الكلام وشدة في المواجهة، كما كان رجلا جوالا، وكان لديه سيارة وأموال، ولا يحتاج إلى من يساعده في نشر فكره، وقد جلست معه مرة أخرى بالقامرة بالرباط إبان حرب أفغانستان في الثمانينيات، ووجدت أنه ما يزال على أفكاره فهو يكفر المجاهدين مثل رباني وعبد رب الرسول سياف، وقال: إنهم مشركون وعملاء أمريكا، فهو يضرب كل من يجده أمامه عرض الحائط، كما كان رحمه الله لا يسمع إلا لرأيه، ولا يقبل الحوار مع الآخر، وقد انتشر هذا الفكر عن طريقه وعن يد غيره، وقد ابتلي أحد أصدقائي به وتجند للدفاع عنه، إلا أنه الآن رجع عنه والحمد لله. وقد أحدث كلامه فتنة لدى المستمعين، وتحول أمرهم من وضع إلى وضع آخر، لأن الإنسان إن لم يكن لديه علم وحصانة علمية وعقيدية تهب الريح به يمينا وشمالا، فيكون في الصباح على أمر، فإذا جاءه أمر آخر في المساء سار في اتجاهه ويترك ما كان عليه، كما قال الإمام مالك رحمه الله:عليكم بالآثار (أي السنن) ، وإياكم وآراء الرجال، فإنه إذا اتبعت رجلا في رأيه، وجاء آخر برأي أقوى منه اتبعته، وأرى أن هذا الأمر لا يتم. وأغلب الناس يميلون لأقوى الناس رأيا وأكثرهم لحنا في الكلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: >إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركه<. من سبل معالجة الظاهرة ولما ذهبنا إلى البيت بات عندي، حاولت طول الليل أن أقنعه، وأتيت له بنصوص، منها أن عقيدة أهل السنة والجماعة يصلون وراء الإنسان سواء كان فاسقا أو فاجرا، وأن الصلاة، كما قال عثمان رضي الله عنه، أحسن ما يصنع الناس فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فعليهم، وأن الصلاة وراء المبتدع في البدع العقيدية مثل القدرية والمرجئة جائزة ما دام أنك تعتقد أنه مسلم. وأتيت له بآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وأنهم لم يهجروا المساجد، لأن الصلاة في المساجد متواترة عند الأمة وأئمة الأمة، ولم تترك الصلاة في أي عصر من العصور، والقول بغير هذا فكر دخيل وناشئ عن الخوارج وأهل البدع، الذين كانوا لا يصلون وراء أئمة السنة، وقال لي السيد الخضر أن مالك رحمه الله منع صلاة جماعة وراء جماعة بالمسجد وكره ذلك، واستحسن الصلاة أفذاذا بعد انتهاء صلاة الإمام، فتعجبت لفتواه رحمه الله هاته، لأن في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، وأبصر رجلا دخل إلى المسجد متأخرا فقال: ألا رجل يتصدق على هذا؟ فقام ابو بكر واعاد معه الصلاة، وأئمة أصحاب السنن الأربعة عقدوا بابا أسموه:باب إعادة الصلاة جماعة مرتين. فبقي محمد يتحدث للسيد الخضر من صلاة الفجر إلى الساعة العاشرة، وهو يحاوره وأحيانا كان الرجل يغضب ويريد الانصراف فيتلطف الشيخ السحابي معه، فذهب إلى حاله، ولكنه ترك آثارا سلبية وراءه بسلا. فأخذ الشباب يأتون للشيخ السحابي فرادى وجماعة ويقولون له:أنتم تكتمون الحق، وهذا هو الحق الذي ظهر، ويضحك الشيخ محمد لترهاتهم. ويذكر محمد السحابي أن الرجل أحدث فتنة، وفي ليلة واحدة جاءه ثمانون فردا إلى البيت لمحاورته في هذا الشأن، وادعاءهم أن كلام السيد الخضر هو الحق، لأن الناس عندما يأتيهم مثل هذه الأفكار يكونون أسرع ميلا، فاستمر حوارنا إلى لآخر الليل، فتكلل الحوار بتراجعهم عن هذه الفكرة والحمد لله إلى الآن. وأعلم، يقول محمد، أن الشباب فارغ وضائع، وكل فكر دخيل جاءه إلا وملأ هذا الفراغ، فلابد من بذل مجهود من الدعاة والمربين والحركات الإسلامية والجمعيات، لأن أخطر ما ينخر المجتمعات هو الفكر المنحرف، لأنه يؤدي إلى انهيار المجتمع، ومعالجته ليست أمنية صرفة، كما يتصور بعض الناس، فهذا فكر لا يقاوم إلا بفكر، لأن حامليه فيهم عنف، ومقابلة العنف بالعنف لا تؤدي إلى النتائج المرغوبة، فهذا فكر عقائدي لا بد أن يواجه بفكر عقائدي، والضغط الأمني قد يكون، ولكن الأهم منه إقناع أصحابه بأدلة شرعية عقائدية من الكتاب والسنة للرجوع عنه.