منذ أن اندلعت انتفاضة البؤس في فرنسا كما وصفها عبد الباري عطوان رئيس تحرير صحيفة القدس العربي التي تصدر في لندن، والنقاش يحتد حول سبب هذه الأحداث التي تعتبر الأخطر في تاريخ فرنسا منذ انتفاضة سنة .1968 العديد من القوى السياسية في فرنسا قفزت لتستغل هذه الأحداث لأهداف مرحلية لا تستهدف التعرف على الداء وعلاجه، وإنما توجيه ضربات للحكومة القائمة، كما أستغلت المأساة أطراف عنصرية أنعزالية تناصر نظرية بالية حول الهجرة وخطرها على فرنسا. ما حدث لم يكن مفاجئا، وقد عكس معاناة جزء هام من سكان فرنسا نتيجة تراكمات وأخطاء شارك في نسجها الكثيرون وقد تصوروا أن أحدا لن يبذل جهودا جدية لتبديلها أو يثور من أجل محو نظام تمييز اقتصادي مستغل يغني طبقة معينة على حساب أخرى. في فرنسا حسب الإحصائيات الرسمية أكثر من 7 ملايين مهاجر في وضعية قانونية، يضاف إلى ذلك ما يزيد قليلا عن مليونين ونصف من الفرنسيين الذين لهم أصول أجنبية وحصلوا على حق المواطنة خلال العقود الثلاثة الأخيرة على أساس رابطة الأرض أي الميلاد فوق التراب الفرنسي وهناك أعداد أخرى كبيرة من الحاملين للجنسية الفرنسية لم يتم تحديدهم بدقة على أساس انتمائهم إلى الأراضي الفرنسية في خارج القارة الأوروبية أو على أساس رابطة الدم أي كون أحد الأبوين حاملا للجنسية الفرنسية . من هذه المعطيات يتبين أن أكثر من واحد من كل 5 أفراد في فرنسا لا يمك تصنيفه في نطاق تحديد زمني لا يتجاوز 4 عقود على أساس الأنتماء الأوروبي الصرف. هذه المجموعة من الساكنة الفرنسية تعاني منذ عقود من التهميش والمعاملة العنصرية والبطالة التي عمقتها الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها فرنسا مثل باقي دول الاتحاد الأوروبي. وصفت بعض الأوساط ثورة البِؤساء في فرنسا بأنها انتفاضة المسلمين وقال آخرون أنها نذير بإرهاب وحرب داخلية، غير أن أقلية صغيرة حاولت سبر أعماق هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها. الذين فعلوا ذلك أشاروا إلى أن المسلمين الفرنسيين لا يشكلون سوى 50 في المائة من الثائرين والبقية من أجيال المهاجرين غير المسلمين الذين قدموا خدمات جليلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من أجل إحياء الاقتصاد الفرنسي. التمييز والمعاملة العنصرية تجاه المسلمين في أوروبا عامة وفرنسا خاصة احتدت في السنوات الأخيرة بدعم من الحركة الصهيونية العالمية وأنصار تمزيق الأمة العربية الإسلامية. وهكذا بات المسلمون في أوروبا يشعرون بأنهم مهمشون محتقرون، غير مرغوب بوجودهم، ويشكلون خطرا على الحضارة الأوروبية، يجب التصدي له بقسوة. النظام الفرنسي رغم أنه يمكن وصف النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الفرنسي بأنه مزيج من الاشتراكية والرأسمالية التي ضمنت ورغم تبدل الحكومات المسيرة في باريس نوعا من الاستقرار، فإن المهاجرين شكلوا الحلقة الأضعف في هذا النسيج الاجتماعي الاقتصادي، وكانوا ويظلون حتى الآن البقرة الحلوب التي تستفيد منها الشركات ورؤوس الأموال وحتى بعض الأفراد. لقد شكل المهاجرون في فرنسا منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية مصدرا سهلا ولينا للاستثمار أو الاستغلال كل حسبما يحب وصف الحالة وبمعنى آخر شكل هؤلاء مصدر إنتاج ذا قيمة مضافة عالية تتجاوز غيرها من حيث مستوى الربح. غير أن المشكلة وكما هو الشأن في كل نظام اقتصادي يقوم على أساس استفادة أقلية من جهد وعمل آخرين هو أن الفئة المستغلة كانت تزداد فقرا وتهميشا مع مرور الزمن. هذه الوضعية تراكمت حتى وصلت الى ثورة البؤساء. الشيخ يوسف القرضاوي وفي تدخل على قناة الجزيرة لخص وهو يطالب بالعودة إلى الهدوء في فرنسا وفي الوقت نفسه يدعو إلى إحقاق الحق قال : إن المناطق والضواحي التي تعيش في فقر مدقع في بلد من البلدان الصناعية الكبري وفي بلد التقدم والحرية ويعيشون مهمشين ولا يتوفرون على حقوقهم الأساسية من صحة وتعليم حتى أن الشباب المتخرج من الجامعات لا يجد عملا مشاكل يجب أن تعالج. وأضاف القرضاوي: على الدولة الفرنسية وعلى الجالية المسلمة أن يتعاونا بالتعجيل لحلها، وقال أيضا يجب الاحتكام إلى الثقات من رجال الحكمة وشيوخ الدين والسياسة وأهل الرأي عن طريق الحديث والحوار مع هؤلاء الشباب وممثليهم واعتبر العلاج الأمني وحده لا يحل المعضلة فلقد تسكن في لحظة ولكنها ستعود إلى الواجهة مرة أخرى، ملحا على ضرورة تبني منطق الحلول الجذرية بدل الترقيع، وذكر إن هذا لا يقبل في بلد متحضر كفرنسا أن تعيش هذه الفئات من المسلمين والأفارقة والعرب وحتى بعض الفرنسيين على هامش المجتمع، ودعا القرضاوي في معرض ندائه الحكومة الفرنسية إلى مراعاة الجانب الإنساني مستهجنا وصفهم بالحثالة فهم بشر مثل غيرهم، لهم حاجاتهم ورغباتهم وتطلعاتهم ووصف ذلك بالنظرة الاستعلائية والعنصرية الخاطئة و التي لن تزيد النار إلا اشتعالا وحث الحكومة الفرنسية على إزالة الفوارق الاجتماعية أو التقليل منها على الأقل إن هي أرادات أن تخرج من ضائقتها. ردة فعل على الهجوم على الإسلام جزء من ثورة البؤساء في فرنسا نابع كذلك عن ردة الفعل على الحملة الشرسة التي شنت ضد الأسلام والمسلمين خاصة في أوروبا منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد الولاياتالمتحدة. ففي كل مكان بأوروبا استغل أنصار الفكر العنصري وأتباع الصهيونية الأحداث ليشنوا حملة ضد الإسلام والمسلمين. وقد وصل تردي الأوضاع إلى درجة أصبح فيها حتى على الذين لهم أسماء عربية وإسلامية مميزة أن يبدلوها إذا أرادوا أن تكون لهم حظوظ مهما كانت صغيرة للحصول على عمل ينقذهم من البطالة. ما حدث ويحدث في فرنسا منذ الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 2005 ولدت يقظة لدى بعض الحريصين على إقامة مجتمع عادل بدون عنصرية. في هذا الإطار قال المفكر الفرنسي البارز ايف لو كوك إنه أصبح من الضروري على الغرب الآن أكثر من أي وقت مضى تجاوز عقدة الإسلام والمسلمين وإظهار احترام أكبر لمعتنقي هذه الديانة في أوروبا لضمان التعايش السلمي بين الجميع. وقال المفكر الفرنسي في مقابلة مع رويترز لم يعد مقبولا أن يتم دوس كرامة الآخرين وعدم احترام ديانتهم وخصوصا الديانة الاسلامية التي أضحت هدفا لهجوم من الغرب بلا هوادة. وأضاف لو كوك وهو وجه وصوت تلفزيوني معروف في فرنسا، أن ما يحدث من شغب في ضواحي العاصمة باريس وغيرها طبيعي بالنظر إلى عدد من العوامل التي أدت إلى غضب المسلمين. واعتبر لو كوك الذي اشتهر بجرأة النقد في برنامجه أعمال الشغب أمر غير مقبول لكن يبدو أن تراكم الإحساس بالتهميش والاحتقار وعدم احترام خصوصية المسلمين هو الذي جعل الأمر يصل إلى هذا الحد من الغضب. وانتقد المفكر الفرنسي أداء حكومة باريس في إدارة هذه الأزمة قائلا من الأفضل معالجة المسألة بالاستماع إلى الجالية المسلمة وتوفير مقومات العيش الجيد لها وخصوصا توفير مزيد من فرص العمل عوض الالتجاء الفوضوي وإلى القوة مباشرة لردع هذه الفئة التي تشعر بالتهميش اجتماعيا واقتصاديا ودينيا. واستغرب لو كوك ربط هذه الأعمال بجماعات إسلامية منظمة مثلما أشارت بعض التقارير الصحفية الغربية معتبرا أن أي حادث مهما كانت سذاجته أو بساطته في فرنسا أو أوروبا من الآن فصاعدا سيتم تحميل المسؤولية فيه للإسلام والمسلمين وهذا أمر مخجل ويجب أن لا يتواصل حتى تستأنف العلاقات بشكل جيد مع المسلمين. الإصلاح بإستثناءات محددة تعاملت الكثير من وسائل الإعلام في فرنسا وأوروبا بدون تحيز واضح لأطروحات اليمين المتطرف المعادي للأجانب بشكل عام وللمسلمين بشكل خاص. وهكذا اعتبرت الصحف الفرنسية ومنها صحيفة لو فيغارو (يمين) أن تطبيق نظام حظر التجول هو بمثابة امتحان كشف الحقيقة للحكومة. وفي حال فشله، فإن الاستعانة بالجيش تبدو الحل الوحيد لإعادة النظام إلى الضواحي حيث يعبر فتيان لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة أحيانا عن غضبهم وضياعهم أمام آفاق مستقبلية مسدودة. وقالت الصحيفة يشعر فتيان هذه المناطق الذين يتحدرون بمعظمهم من دول إفريقيا والمغرب أنهم يتعرضون للتمييز وأنهم يعيشون على هامش المجتمع الفرنسي. وتحت عنوان حظر التجول، ستار لاخفاء البؤس كتبت صحيفة ليبراسيون (يسار) أن العديد من رؤساء بلديات المدن المعنية يشككون في فاعلية هذا الاجراء مشيرة إلى أن الدعوات الى الهدوء التي أصدرتها الحكومة لا تنطوي على خطاب تهدئة. وتجنبت المعارضة الاشتراكية صب الزيت على النار معتبرة أن حظر التجول قد يساهم في إعادة النظام. الحكومة الفرنسية وفي محاولة منها لتهدئة الأوضاع طرحت عدة حلول لتهدئة الجماهير الثائرة، طرحت عدة مبادرات. وهكذا الوزير الأول أنه سيتم قريبا إنشاء وكالة كبيرة للانصهار الاجتماعي وتكافؤ الفرص التي ستكون الجهة المعنية بالتباحث مع رؤساء البلديات حول جميع المسائل المتعلقة بالأحياء الحساسة. ووعد دو فيلبان بإنشاء 15 منطقة حرة إضافية في المدن لتحفيز الشركات على افتتاح مركز أو فرع لها في هذه الأحياء. وقال سيتم تخصيص عشرين ألف عقد عمل خاص بالعاطلين عن العمل للأحياء الحساسة، مشيرا إلى أن الحكومة ستزيد بنسبة 25 في المائة الأموال المخصصة للوكالة الوطنية لإعادة التأهيل المدني. يذكر أن بعض الخبراء والجمعيات أعتبروا أن نسبة البطالة العالية والتمييز في التوظيف ساهما بشكل كبير في اليأس الذي يشعر به سكان الضواحي المحرومة في فرنسا، على الرغم من المبادرات العديدة المقترحة منذ سنوات لتحفيز العمل في هذه الضواحي. وسط هذه العاصفة التي ترج فرنسا قد يكون من المفيد الأستماع الى رأي الزعيم القومي الروسي المتشدد فلاديمير جيرينوفسكي: جيث أكد أن أعمال العنف التي تشهدها ضواحي المدن الفرنسية هي مؤامرة حاكتها أجهزة الاستخبارات الأمريكية. وقال جيرينوفسكي لإذاعة صدى موسكو أن وراء الأحداث التي تهز فرنسا نجد خليطا متفجرا يتألف من رغبة الاستخبارات الأمريكية في إضعاف أوروبا وظروفا ملائمة لثورة المهاجرين.