في سبعينيات القرن العشرين طرح الكاتب هشام بوقمرة، الذي يبدو أنه لم يعد يتذكره أحد الآن حتى في بلاده تونس، فرضية «الإرهاق الحضاري» في محاولة لتفسير عدم قدرة العرب على التجدد الذاتي واستئناف الفعل التاريخي، ناهيك عن استئناف رسالتهم الثقافية أو الحضارية إلى العالمين. وإذا كان المقصود أن الإنهاك أخذ من العرب مأخذه بعد أكثر من قرنين من الصراع مع القوى الاستعمارية الكبرى وبعد أكثر من خمسة قرون من الاستبداد السياسي وتوقف دورة الانتاج العلمي، علاوة على ما سبق تلك القرون من تعاقب غزوات المغول والتتر وحملات الإفرنج (التي شاع تسميتها بالحملات الصليبية)، فان للفرضية وجها معقولا. بل إنه يجوز القول أن الإرهاق، أو الإنهاك، ليس مجرد فرضية، بل إنه واقع تاريخي قابل للملاحظة. ولكن هل يمكن لواقع الإرهاق أو الإنهاك أن يبلغ مبلغ العامل التفسيري، ولو ضمن عوامل أخرى، لوضع العرب منذ بداية الثلث الأخير من القرن العشرين (أي منذ هزيمة 1967 الساحقة النكراء التي حولها الخطاب الايديولوجي السائد إلى مجرد «نكسة») حتى اليوم؟ تحول دون هذا التعليل اعتبارات متعددة لعل أبرزها أن هنالك أمما عانت طول الاستعمار، مثل الهند، أو طول الاذلال، مثل الصين، ولكن الإرهاق الحضاري لم يجعل منها فريسة للعجز التاريخي. بل على العكس. حيث أن من أهم بواعث النهضة الصينية أن لدى القيادة والشعب إرادة مشتركة في غسل إثر المذلة التاريخية التي فرضتها الإمبريالية الغربية على هذه الأمة العريقة. لا بل إن معظم التاريخ الحديث في القرون الخمسة الماضية، مثلما يُبين المؤرخ مارك فرو، إنما يجد تفسيره في رغبة الأمم والشعوب والفئات الاجتماعية والجماعات الدينية والإثنية في الثأر من مظالم التاريخ، أي من الأطراف التي أخضعتها لمختلف صنوف الاذلال والاستغلال. لهذا يرى المؤرخ الفرنسي أن المظالم، الحقيقي منها والمتصور، لا تقع في الأساس من الحروب الدينية والقومية وحركات التحرر الوطني والثورات الشعبية فحسب، بل إنها تقع في الأساس حتى من الفاشية والعنصرية. وبما أن الصهيونية حركة عنصرية وبما أن اسرائيل دولة فاشية، فإنه يمكن أيضا تفسير نشأة دولة الكيان الصهيوني في هذا الإطار، ولو أن الإضافة البحثية الحاسمة التي قدمها مارك فرو، في ما يتعلق بالمسألة اليهودية، لا يوجد في هذا المبحث، وانما يقع في سياق آخر آمل أن يتاح لنا التطرق اليه مستقبلا. ويبقى أننا سواء كنا مرهقين منهكين أم لم نكن، فإنه لا بد من تقرير حقيقة بسيطة ولكنها مركزية، وهي أن القرن العشرين قد وفر لنا، نحن العرب، أوسع «نافذة فرصة» لأن نجمع أمرنا ونعقد عزمنا على أن نصير أمة محترمة بين الأمم: أمة متحدة تعبر عن إرادتها دولة قومية واحدة. فقد كانت قوى التحرر والنهضة والتنمية والتقدم محتشدة في معظم البلدان العربية. وكان لنا في آسيا وإفريقيا صوت مسموع وتحالفات فاتحة على المستقبل. وكان يمكن لو أفلحت أي محاولة تكاملية مدروسة بين بلدين عربيين (بعد استخلاص عبر المحاولة المصرية السورية) أن تكون بمثابة النموذج الذي تنسج البقية على منواله في التجمعات الطبيعية الكبرى: المشرق، والخليج، والمغرب. ولكننا بددنا فرصة ربما كانت هي الأخيرة. ونخطىء اليوم أكبر الخطأ إن ظننا أن التاريخ قد يكون أرحم بنا في هذا القرن مما كان في سلفه. ذلك أنه كان عندنا في القرن العشرين حد أدنى من الوعي بوحدة المصير او الإدراك لاشتراك المصالح. أما الآن فإننا قد دخلنا هذا القرن وقلوبنا شتى. وقد ازداد تشتت القلوب منذ احتلال العراق وتمزيقه ثم سقطنا، عميانا، في هاوية بلا قرار بعد تحول الثورات الشعبية إلى حروب إقليمية ماحقة (مع أن الصحافة البريطانية محقة في تسمية ما يجري في بلاد الشام بانه «حرب سوريا العالمية»). دخلنا هذا القرن فرادى وجلين، أذلة صاغرين، لأننا بددنا فرصتنا الأخيرة في القرن العشرين. المصدر: القدس العربي