لم أكن قبلها تذوقت كأسها، ولا استسغت غصتها، وإنما سيقت إلي ككأس أذهبت بعضا من حزمي، وأنساني قصدي، فكنت أحس بنفسي تغالب وتمانع، تدفع وتدافع..... في جو الجامعة لا يظهر إلا اللبيب الماهر، الذي يتقن سحر الجماهير، كنت أتصور دائما أن ما آمنا به من أفكار، وما اعتقدناه من تصورات هو الدافع والموجه لأعمالنا، وما زلت أعتقد ذلك، غير أن الفكرة حين تخالط طينة الأرض تصير لها أشكال وأطياف، فلم تعد تلك الروح النقية في تجردها وصفائها، ولم تعد تلك الفكرة في أصالتها وعمقها، وإنما خالطها شيء من فعل الإنسان، فانقلبت الإرادة على العزم، وضاق الصدر عندها... في مجمع الإخوة، جو من الإيمان يخالط بشاشة القلوب، لم تكن مجالسنا تخلو من أدب الحديث وروح الإخاء. كان يكتنف المجلس حديث عن نضالنا اليومي الشاق، نسترجع فيه كل لحظة ما صنع هذا وما فعل ذاك، في لحن من البطولة، وأحيانا من الدعابة والعبرة. لم يكن ذلك يشغل ذهني كثيرا، فقد كنت مفتونا بحال يختم على قلبي ونفسي المضطربة. لم أكن أتصور أني بتلك الإرادة قد يهدأ لي جفن، أظل الصباح والمساء مترددا بين كلية العلوم والآداب، لا يضرني أتناولت غذائي أم نسيته، وعادة ما كنت أذكر وسط زحام الحلقات والتظاهرات أني لم أذق طعاما منذ الصباح... كان الليل بهيجا، جو الربيع الأخضر يسحر العيون وسط ساحة الحي الجامعي بالقنيطرة، كل شيء كان يبعث على الارتياح، جو عليل هادئ، مشاهد من الطبيعة مؤثرة، والمكان حلقة يمتد زمنها من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر. لم يكن يوقفنا حينها إلا صوت المؤذن، وهو يكبر بصوته معلنا عن دخول وقت صلاة الفجر. كان ذلك الصوت القوي الذي ينبعث من وسط الحلقة، فيخاطب نخبة من هذه الأمة المنكوبة، نخبة أوتيت من العلم وقوة العزيمة والإرادة، وعلى شرفات النوافذ تتطلع المهج والآذان إلى تلك الحلقة الفريدة. قد تبرد الركب في تلك الليلة، وتصيبنا السماء ببعض الندى، ولكن الأرواح مشدودة إلى هذا الجو الفكري الإيماني الدافئ. وترى الأنظار تلمح إليك، وعليها آثار الاندهاش والإعجاب، تخترقك حينها سهام قاتلة، فتحس ببعض من قدرتك وعبقريتك، وأحيانا يتحرك غرورك بعيدا. لا تقوى على الصمود، وأنت تدافع نفسك من داخلك، وتدافع الملأ، وهم ينظرون إليك، ويشعلون فتيل غرورك ، فتنطلق نفسك إلى غير رجعة : كيف كان تدخلي وسط الحلقة؟. ينطلق صوت من الإخوان: عجيب وصوت آخر طريف ، وقليلا ما تجد من لا يثني عليك، فيسكن من فورة فؤادك. يزداد الاقتناع بقدرة هذه النفس وذكائها ولحن خطابها، فقد قارعت اليسار بذكاء، وناظرتهم بفطنة وحكمة بالغة، ودفعت بهم إلى منزلق فقد الدليل، والقول بالتخرص، بينما توطنت النفس، وحطت مراكبها في بر الحجة والبرهان.... تشرئب أعناق أخرى إليك، هي قلوب لم يساكنها نور الإيمان ، وإنما ساقها جميل برهانك وطريق استدلالك، فألقت من العين شعاعا له على القلب أثر، يزداد به لهيب غرورك اشتعالا، فلا تقوى مرة أخرى على المواجهة. لقد انضاف إلى الإخوة جمع آخر، ذهل لقولك وعشق لحن صوتك، فصرت كلما هممت بالحديث اندفعت إليك الأفواج، وهذه المرة، لن يبالوا كثيرا بصوتك، وإنما النظر سيقع على ثوبك وحذائك !! فإن كنت جميلا وعلى ثوبك أناقة المتذوق، صار لك ذلك وصفا وتحلية، وإن لم يكن لك وقت لتلميع حذائك، وتنظيم تناسق لون ثوبك، كنت الذي شغلته هموم النضال والقراءة عن سفاسف الأمور !!! يزداد قرب الناس منك كلما تكلمت بلين، كلما خدمت الناس بابتسامة لا تفارق وجهك، كلما ألقيت سلاما طيبا، يزداد إقبال الناس عليك ، ولا أحد يدري أنك تختنق حينا وتضطرب حينا، وتعيش نفسك حلكات الصراع، إذ تحس بغرورها يذهب الأفكار الطيبة، التي من أجلها كان مبرر الوجود والتواجد.... لقد صنعتك الفكرة، وصرت بها رمزا، وها قد انقلبت عليها، فصنعت منك الجماهير كعكة حلوة تنسيهم عمق الفكرة، وتذكرهم بسطحية التناول... كنت أخي ضحية الجماهير، والآن تعلم أنك مسؤول عن هذه العاطفة الكاسحة التي تحركها، أنت مسؤول عن كل وهم وكل خرافة وكل هوس يأخذ بلب الجماهير، فيصيبها من هذه الألوان جنون، ولست أدري اليوم هل الجماهير مرة أخرى ستقبل عليك؟ وستعي الدرس أخي، وتعلم أنك بفكرك ونقدك كنت سخيفا، إذ أتعبت نفسك لتخرج في نهاية المعركة، بنفس متعبة فقدت جوهر الفكرة، وفتك بها الغرور، ففقدت كل إرادة، ومضيت ومضت الجماهير، وبينك وبين صفاء النفس مجاهدة وإرادة.. لقد صنع منك السذج والغفل والعشرات التائهة رمزا تجسدت فيه مواقف، لكن غابت عنه الفكرة، لما شغل الناس بكيفية استيقاظك ووقت قراءتك وتحصيلك، وساعات نومك، وربطة عنقك، وحذائك، وأذواقك ومواجدك، صار الناس يبحثون قصصك وأخبارك وأحاديثك: - كان هنا فقال..... - وحين كان قرب بهو الجامعة، قال وتحدث بكل قوة.... - ورأيته يبتسم بطريقة لبقة، ويخفض جفنه، ويقول..... التفت الناس لأشياء أخرى، لم تكن تعتقد يوما أن وجودك بينهم كان لأجلها، لقد بنيت الشهرة الصنم واغتيلت الفكرة.