في نوفمبر 1990 نشرت جريدة الصن الشعبية البريطانية على صدر صفحتها الأولى مقالا سرعان ما صار عنوانه من «مأثورات» الصحافة البريطانية. كان عنوانا بذيئا في لغته وعداونيا في تهجمه الشرس ضد رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، السياسي والاقتصادي الفرنسي المرموق جاك ديلور. ومع ذلك، فقد كان عنوانا بارعا في فن الشعبوية المطلوبة والمحبوبة لدى قراء الجريدة، نظرا إلى أن معظمهم ينتمي إلى الشرائح المحدودة التعليم والضيقة الأفق. أما سبب الهجمة فهو أن جاك ديلور قد كان آنذاك جادا في تزعم المسعى إلى تعزيز الاندماج الأوروبي وإقامة الاتحاد النقدي، وكان يحاول إقناع بريطانيا بوجوب الانضمام إلى ما سمي آنذاك ب»الوحدة النقدية الأوروبية» التي مثلت الصيغة الأولية من مشروع العملة الأوروبية الموحدة (اليورو). وبطبيعة الحال،كان الرفض البريطاني قاطعا، حيث كانت مارغريت تاتشر بالمرصاد لكل «الضلالات الأوروبية». وقد اضطلع جاك ديلور، منذ بدايات رئاسته للمفوضية عام 1985، بدور بارز في إرساء أسس السوق الأوروبية الموحدة التي دخل العمل بها حيز التنفيذ في بداية عام 1993. وهذه السوق الموحدة هي التي أخذت بريطانيا تدرك الآن أنها ستحرم منها كليا، أي أنها ستخسر فرص النفاذ إليها، في أعقاب التصويت يوم 23 يونيو بالخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت). ولهذا فقد أخذت بريطانيا تمنّي النفس من الآن بالتفاهم مع بروكسل حول إمكانية الاحتفاظ بامتياز النفاذ إلى السوق الموحدة. ولكن الرد أتى بأن هذا أمر موكول للمفاوضات التي ستطول أمدا، فضلا عن أنه سيبقى مشروطا في مطلق الأحوال بالشروط ذاتها التي حملت البريطانيين على الخروج. وأهمها هو شرط حرية تنقل المواطنين بين جميع البلدان الأوروبية. وقد استحكم عداء حزب المحافظين الحاكم لجاك ديلور بعد أن خطب في خريف 1988 أمام مؤتمر اتحاد النقابات البريطانية متعهدا بأن تعمل المفوضية على إلزام حكومات الدول الأعضاء بسن قوانين تعزز من حماية حقوق العمال. فردت عليه تاتشر بخطاب شهير يوم 20 سبتمبر 1988 قالت فيه إنه لا سبيل، بعد أن نجحت شخصيا في تقليص تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد والعمل في بريطانيا، إلى أن تقبل بإعادة فرض هذا التدخل عن طريق «الدولة المتضخمة» في بروكسل. وربما كان 1988 عاما مفصليا في إعادة تشكيل علاقة بريطانيا بالمشروع الأوروبي. حيث كان حزب العمال، من السبعينيات حتى أوائل الثمانينيات، مناهضا لانضمام بريطانيا للمجموعة الأوروبية بينما كان حزب المحافظين مؤيدا. ولهذا وقع الانضمام يوم 1 يناير 1973، في عهد رئيس الوزراء المحافظ ادوارد هيث. أما الاستفتاء الذي صوت فيه ثلثا البريطانيين، يوم 6 يونيو 1975، بتأييد الاستمرار في عضوية المجموعة الأوروبية، فقد عقد في عهد رئيس الوزراء العمالي هارولد ويلسون. ومنذ منتصف الثمانينيات تغير الوضع، فأصبح العماليون يؤيدون العضوية الأوروبية، بينما صارت «أوروبا» هي محور الشقاق الأكبر في صفوف المحافظين. وما كان لديفيد كاميرون من غاية من عقد الاستفتاء سوى محاولة معالجة هذا الشقاق الحزبي المستديم، حيث كان يراوده أمل قوي في أن تكون نتيجة الاستفتاء إيجابية بما يسمح له بإخراس صوت الجناح الحزبي المعادي لأوروبا، وهو جناح مشاغب عانى منه رئيس الوزراء السابق جون ميجور الأمرّين. وقد أبدعت جريدة الصن عنوانها «المأثور» بينما كان مؤتمر حزب المحافظين السنوي منعقدا في مدينة بورنموث. ولا أزال أذكر أجواء المؤتمر الذي هيمنت على أشغاله قضيتان: الغزو العراقي للكويت و«خطر» جاك ديلور على السيادة البريطانية. كان بعض الصحافيين الفرنسيين منزعجين من شراسة الحملة على ديلور، خاصة أن خطاب تاتشر في المؤتمر قد صب الزيت على النار. وبينما نحن كذلك، خرج ادوارد هيث على الصحافيين مفاجئا: «سوف أقابل صدام حسين في بغداد!» أما البقية فتاريخ: ما أن نجح هيث في إقناع صدام بالإفراج عن الرعايا الغربيين حتى بدأ العد التنازلي للحرب التي استولدت حروبا ودشنت خرابا صار لنا سكنا ومقاما. المصدر: القدس العربي