قبل أيام أصدرت السلطات البريطانية قائمة بما وصفته "السلوكيات غير المقبولة"، من تلك التي لن يسمح لمن يقترفها بالدخول أو البقاء في بريطانيا، وتشمل القائمة السلوكيات الآتية: (تبرير أو تمجيد العنف الإرهابي أو التواطؤ معه عملاً بقناعات خاصة، السعي إلى تحريض أشخاص آخرين على القيام بأعمال إرهابية، التواطؤ في نشاطات إجرامية خطيرة أو السعي إلى دفع آخرين إلى ارتكاب أعمال إجرامية خطرة، التحريض على الكراهية التي يمكن أن تقود إلى أعمال عنف بين مختلف الفئات الاجتماعية في بريطانيا). بداية لا بد من القول إنه من حق بريطانيا أو أية دولة ذات سيادة أن تتخذ من الإجراءات ما تراه مناسباً لحماية أمنها العام ما دامت تحظى بتأييد شعبي، وقد قلنا من قبل إنه من المعيب أن يأتي أحدهم لاجئاً إلى بلد من البلدان، وقد يتقاضى معونات الضمان الاجتماعي من مؤسساته الرسمية ثم يحرض على قتل أبنائه داخل البلد وليس في الأماكن التي يكون فيها معتدياً كما هو حال بريطانيا في العراق على سبيل المثال. لكن قائمة "السلوكيات غير المقبولة" التي نحن بصددها لا تبدو منطقية بحال من الأحوال، إذ أنها أشبه ما تكون بقوانين العالم الثالث، ولا تمت بصلة إلى التقاليد البريطانية التي جعلت من لندن عاصمة العالم بحق، ليس بتنوعها الاثني والثقافي فقط، وإنما بانفتاحها وفضاء الحرية الواسع الذي تتمتع به. إنها قائمة تتجاوز الحرب على "الإرهاب" أو أعمال العنف التي تطال المدنيين لتصل حدود الحرب على حرية التعبير التي تميزت بها لندن بين زميلاتها الأوروبيات، بل في العالم أجمع، وما من شك أن تطبيقاً حرفياً لهذه اللائحة من المحرمات لن يطال الآلاف من غير الأصول البريطانية فحسب، بل سيشمل إلى جانبهم أعداداً لا حصر لها من البريطانيين أيضاً، وإلا فأين يوضع شخص مثل رئيس بلدية لندن كين ليفنغستون، ذلك الذي لا يختلف ما قاله تعليقاً على هجمات لندن عما قاله كثيرون في العالم العربي والإسلامي مما يمكن أن يصنف بوصفه تبريراً لما جرى، مع أنه كان تفسيراً لا أكثر، الأمر الذي ينطبق على جورج غالاوي وتوني بن وعشرات آخرين، بل وربما غالبية من الشعب البريطاني قالت استطلاعات الرأي إنهم قد أكدوا الصلة بين الهجمات والمشاركة البريطانية في الحرب على العراق. الأسوأ أن مصطلح العنف الإرهابي لا يبدو محصوراً في بريطانيا، بل يشمل المناطق الأخرى من العالم، والنتيجة أنه يشمل فلسطين، وقد رفض بلير ما سماه العمليات الانتحارية في كل مكان بما في ذلك في الدولة العبرية، والنتيجة هي أن تأييد المقاومة في فلسطين والعراق وأماكن أخرى قد غدا من المحظورات البريطانية أيضاً، الأمر الذي قد ينسحب على آلاف المعارضين السياسيين الذين يتواجدون في بريطانيا ويدافع كثير منهم عن نشاطات مسلحة ضد أنظمتهم بهذا الشكل أو ذاك. هكذا تفقد بريطانيا، ولندن تحديداً، تميزها الاسثنائي بالحرية والانفتاح، والذي حفظ لها دورها العالمي على رغم نهايتها كإمبراطورية، وهو دور ما زال يعود عليها مكاسب سياسية واقتصادية بلا حصر، بل إن تداعيات هجمات أيلول في الولاياتالمتحدة وفوبيا الإرهاب التي سادت في الأروقة الأمريكية قد تسببت في رحيل طوعي لمئات البلايين من الدولارات صوب بريطانيا ما أدى إلى انتعاش كبير لاقتصادها، ولو انتقلت لوثة الإرهاب الأمريكية إلى بريطانيا لما بقي الحال على ما هو عليه الآن. من هنا يمكن القول إن من مصلحة بريطانيا أن تحافظ على هدوئها واتزانها، ذلك أن بضعة تفجيرات لا تبدو كافية كي تغير من مسار سياسي وثقافي راسخ كانت له آثاره الإيجابية على البلاد على مختلف الأصعدة، في حين لا يبدو الصدام مع العالم العربي والإسلامي انسجاماً مع توجهات المحافظين الجدد في مصلحة بريطانيا، فما يمكن أن تجنيه من علاقات الصداقة مع العالم العربي والإسلامي يبدو أفضل بكثير مما يمكن أن تجنيه من ذلك الإفراط في تبعيتها السياسية للولايات المتحدة.