حولت "سيندي شيهان"، والدة الجندي الأمريكي المقتول في العراق إجازة الرئيس جورج بوش إلى كابوس لن يتوقف بمجرد مغادرته للمزرعة الأسطورية التي يمتلكها في منطقة كروفورد بولاية تكساس، فقد أنشأت الأم الثكلى مخيماً قرب المزرعة حمل اسم ابنها القتيل "توم كايسي"، فيما انضمت إليها مئات الأمهات، الأمر الذي استنفر بدوره عدداً من المجموعات المعادية للحرب في الولاياتالمتحدة، فبادرت إلى إقامة العديد من الفعاليات في مختلف المدن الأمريكية للتضامن مع المعتصمات في تكساس. واللافت أن تذمر الشارع الأمريكي من مسار الحرب في العراق قد أخذ يتصاعد خلال الأسابيع الماضية، كما عكست ذلك استطلاعات الرأي، وكما عكسته أيضاً جملة من الانتقادات التي خرج بها عدد من أعضاء الكونغرس، الأمر الذي أثار قلق الدوائر المحيطة بالرئيس الأمريكي إدراكاً منها لحقيقة أن مثل هذه المواقف عادة ما تكبر مثل كرة الثلج وصولاً إلى احتمال دفع الرأي العام الأمريكي إلى إعلان البراءة مما يجري في العراق ومن ثم المطالبة بالخروج من المستنقع. من هنا كان تركيز بوش خلال خطاباته الأخيرة واضحاً في سياق السعي إلى لملمة الموقف عبر تكرار تلك النظرية البائسة حول ضرورة الحرب على العراق من أجل الحيلولة دون مجيء الإرهابيين إلى مدننا وشوارعنا، وهي نظرية لم تعد مقنعة بحال من الأحوال، لأن أسامة بن لادن نفسه وأيمن الظواهري قد ردا عليها غير مرة، رغم أن الواقع على الأرض ما زال ينفيها جملاً وتفصيلا. كان لافتاً في هذا السياق تلك الهبة التي قامت بها الدوائر الصهيونية في مواجهة سيندي شيهان عبر اتهامها باللاسامية ومعاداة الدولة العبرية، وذلك بعد أن أدلت بتصريحات أثارت أعصاب تلك الدوائر. وكان مما قالته أن ابنها البكر قد قتل "ثمناً لأكاذيب وأجندة المحافظين الجدد وخدمة لإسرائيل". والحال أن الدوائر المذكورة لم تكن في حاجة إلى إشارة شيهان إلى الدولة العبرية كي تشن حملتها المضادة عليها، ذلك أن ضرب مصداقية المحافظين الجدد والحرب عموماً هو في نهاية المطاف تهديد لمصالح الدولة العبرية التي لا تتخيل أن ينتهي مشروع الحرب على العراق إلى الفشل، والسبب هو أن مستقبل الدولة وتحديداً مشروع شارون الجديد ما زال يراهن عليها بالكامل. ما من شك أن تلك الدوائر ما تزال قادرة على إرهاب الآخرين نظراً لسطوتها السياسية والإعلامية، غير أن عدداً من الجمهوريين من خارج تيار المحافظين الجدد قد بدأ يحسب حساب المرحلة المقبلة، تحديداً ما يتعلق بانتخابات الكونغرس نهاية العام المقبل، وحيث يمكن لتواصل مسلسل الخيبة الأمريكية في العراق أن يهدد الغالبية الجمهورية في الكونغرس، مع أن موقف الديمقراطيين ليس قوياً في هذا الاتجاه، نظراً لغلبة النفوذ اليهودي في دوائر الحزب الديمقراطي. على أن جملة الظروف الموضوعية المتعلقة بمصداقية الحرب على العراق ما زالت تشير إلى أن استمرار التراجع، ولولا الموقف الأوروبي الداعم، وأقله الساكت على الأمريكان خوفاً من هزيمتهم أمام القوى "الراديكالية" لكان الوضع مختلفاً إلى حد كبير. موقف سيندي شيهان وزميلاتها يذكرنا بمنظمة الأمهات الأربع التي ساهمت في دفع الإسرائيليين إلى الخروج من لبنان، كما يذكرنا بضغط الرأي العام الأمريكي الذي أفضى إلى الخروج من فيتنام، وفيما نراهن قبل كل شيء على بسالة المقاومة العراقية، فإن التداعيات السياسية لتلك المقاومة ما زالت تزيدنا ثقة بالمستقبل.