يطرح رحيل العاهل السعودي الملك فهد أسئلة كثيرة تتعلق بالداخل السعودي، فضلاً عن الشق الخارجي من السياسات السعودية، وفيما يرى البعض أن المسائل ستكون عادية جداً على اعتبار أن الرجل كان في حكم الغائب منذ سنوات، وأن الملك عبد الله كان هو الحاكم الفعلي للبلاد، فإن حقيقة الصورة ليست بهذا التبسيط، إذ إن تداعيات مهمة ستترتب على الوضع الجديد، ليس فقط بسبب تقدم ولي العهد والملك الجديد عبد الله في السن، ولكن أيضاً لأن أوراق اللعبة في الداخل لم تكن كلها في يديه، بل توزعت بين طائفة من الأمراء المؤثرين ممن لم يكونوا على انسجام كامل معه، أكان تبعاً لمعادلة العلاقات الشخصية والإنسانية، أم فيما يتعلق بالخلاف حول أولويات السياسة الداخلية والخارجية. بداية لا بد من القول إن الوضع السعودي يبدو متفرداً في سياق الأسر المالكة في الساحة العربية، ومصدر التفرد الذي نعنيه هو اتساع دائرة الأمراء في المملكة، ليس فقط في سياق الكبار، بل أيضاً وهذه هو الأهم، في سياق الجيل الثاني الواسع المعارف والطموحات في آن، وهو وضع يترتب عليه الكثير من التنافس الطبيعي بين البشر على كل ما يمت إلى السلطة والثروة بصلة، وإذا أضفنا إلى ذلك بعض الخلافات القائمة في الأسرة المالكة، وهي طبيعية في هكذا حالات، فإن الموقف لا يغدو سهلاً بحال. ما من شك أن هذا البعد سيظل حاضراً في سياق قراءة المستقبل، لكن حسن الطالع بالنسبة للملك الجديد هو تزامن تنصيبه مع وفرة نفطية استثنائية بعد الارتفاع المذهل في أسعار النفط، الأمر الذي سيسهّل عليه تسوية المسائل الداخلية على عادة الملوك، خلافاً للحال لو بقيت أسعار النفط في حدودها السابقة التي أصابت الموازنات الخليجية بالجفاف وأخذت تترك آثارها على الحراك السياسي والاجتماعي، وبخاصة في السعودية. هناك بالتأكيد تحديات أخرى تتمثل في الحراك السياسي، الذي تشهده الساحة الداخلية السعودية، وهو حراك لا يمكن الحكم عليه فقط من خلال موجة العنف المحدودة التي اندلعت خلال الفترة الأخيرة، لاسيما وهي موجة محكوم عليها بالانحسار، ربما في وقت لن يطول، بسبب عدم وجود فضاء داعم لها في الداخل أو في الخارج، بل لا بد من رؤية تشمل ذلك الحراك السياسي الذي فرضه التطور الطبيعي للمجتمع السعودي في ظل اتساع دائرة النخبة المثقفة المطالبة بدور أكبر في الميدان السياسي. يدخل في ذات السياق جدل آخر لا يقل أهمية، أعني جدل العلاقة بين الدين والدولة والمدى الذي يمكن أن تتواصل فيه الأوضاع القائمة من حيث هيمنة الدين على الحياة الاجتماعية مقابل ضآلة تأثيره من الناحية السياسية، لاسيما في ظل تنامي أصوات قوية داخل السلطة، تدعمها نخب علمانية ترى ضرورة تقليم نفوذ المؤسسة الدينية، في مقابل فتح المجال أمام مزيد من علمنة المجتمع. والحال أن هذا البعد لم يكن فقط نتاج الحراك الداخلي، على أهمية هذا الحراك في مجتمع تتسع دائرة نخبه ويعيش صحوة إسلامية مسيّسة، بل كانت الاتهامات الأمريكية للملكة بتفريخ أجيال من الإرهابيين مؤثرة على هذا الصعيد، الأمر الذي صعّد مطالب بعض أركان السلطة والنخب العلمانية بضرورة إعادة تشكيل الحياة الاجتماعية والدينية على أسس مختلفة تحول دون تفريخ التطرف والإرهاب. لا يعني ذلك تأييداً للطرح الأمريكي الذي نختلف معه تماماً، لأن العنف ليس ظاهرة دينية أو فكرية، بقدر ما هو ظاهرة سياسية. وإذا كان لبعض المفردات السعودية من ذلك العنف خيوط داخلية تتعلق بالحراك السياسي والاجتماعي الذي اشرنا إليه، فإن الثابت هو أن معظم خيوطه ما تزال خارجية، وتتعلق تحديداً بالسياسات الأمريكية حيال المنطقة. من المفيد التذكير هنا بأن الأمير عبد الله لم يكن خياراً مفضلاً بالنسبة للأمريكيين، وما المحاولة الليبية المفترضة، وربما المرجحة، لاغتياله إلا نوعاً من أنواع التقرب من الأمريكيين بتخليصهم من رجل لا يريدونه، أما مساعي الأمير للتفاهم مع واشنطن خلال العامين الأخيرين فكانت بدورها إدراكاً منه لهذا البعد، وبالطبع خشية أن يتدخلوا بطريقة أو بأخرى لإثارة المتاعب الداخلية له بما يحول دون تنصيبه ملكاً بعد وفاة شقيقه. بالنسبة للسياسة الخارجية؛ خليجياً وعربياً ودولياً، يمكن القول أنها لن تبتعد كثيراً عما كانت عليه، لاسيما في شقها الخليجي والعربي، لكن المؤكد هو أن إعادة لملمة البيت الخليجي وتأكيد الزعامة السعودية لمجلس التعاون لن تكون مهمة سهلة في ظل التباينات القائمة حالياً بين دوله، وما يشبه التمرد القائم على تلك الزعامة. أما عربياً فقد يكون الموقف معقولاً في ظل استمرار حالة التفاهم المصري السعودي على توزيع الأدوار بما يحفظ للقاهرة زعامتها وللملكة حضورها الخليجي والعربي. يبقى البعد الدولي، وتحديداً ذلك المتعلق بالعلاقة مع واشنطن، وفي هذا السياق يمكن القول أن من حسن طالع الملك الجديد أن يتزامن تنصيبه مع معالم فشل أمريكي واضح على مختلف الأصعدة بعد الفشل في العراق، ما يعني أن الفوضى القادمة في ميزان القوى الدولي ستتيح للرياض فرصة التحرك بعيداً عن الاستفراد الأمريكي. الآن يمكن للأمير عبد الله أن يتحلل من هواجس مختلفة كانت قائمة قبل تنصيبه، وليبدأ عمله ملكاً كامل الصلاحيات ينفذ سياساته الداخلية والخارجية بما ينسجم مع رؤاه، وما من شك أن الأوساط الداخلية السعودية، لاسيما الإسلامية والعروبية التي تمثل الغالبية الساحقة من الناس، ما زالت تعول الكثير على عهده، ليس فقط لاقترابه أكثر من غيره من توجهاتها في السياسة الخارجية، بل أيضاً لما يؤمل منه على صعيد الحفاظ على هوية البلد، إلى جانب الانفتاح الداخلي على المجتمع السعودي وقواه الحية بعيداً عن الأوهام التي تنثرها نخب علمانية أمريكية تريد للملكة أن تتمرد على هويتها وفضائها العربي والإسلامي.