وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس مساء أول أمس الأربعاء خطابا ساميا إلى الأمة بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة الملك والشعب، أكد أن المغرب لن يقبل أي مساومة بشأن قضية وحدته الترابية وسيادته الوطنية، داعيا الشعب المغربي إلى التخلي باليقضة والفاعلية من أجل صيانة الوحدة الترابية من مؤامرات الانفصاليين والمتحاملين. وأعلن جلالة الملك في الخطاب ذاته أنه أصدر تعليماته السامية إلى اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية كي تنهي أعمالها خلال شهر شتنبرالمقبل، كما دعا جلالته المغاربة إلى الانخراط الفعال في ثورة جديدة للملك والشعب، انطلاقا من المرجعيات والأهداف الطموحة، التي حددها في خطاب العرش، غايتها المثلى تشييد دولة ديمقراطية فعالة، محصنة من كل أشكال التكفير الديني أو الإقصاء السياسي، وبناء اقتصاد متحرر، منتج للثروات والتشغيل، ومجتمع متضامن، ونهضة فكرية، منفتحة على روح العصر، وملتزمة بالهوية المغربية. وفي ما يلي نص الخطاب الملكي كاملا: شعبي العزيز، منذ خمسين سنة خلت، وفي هذه الحقبة التاريخية للعرش، انطلقت ثورة جدنا المنعم، الملك محمد الخامس، قدس الله روحه، بتحديه جبروت الاستعمار، وإيثاره التضحية بالعرش، والمنفى مع أسرته الشريفة، في سبيل استقلال المغرب، لتندلع إثرها شرارة ثورة الشعب، فداء لملكه الشرعي ورمز سيادته. وبعد مضي سنتين، حققت هذه الثورة المظفرة نهاية عهد الحجر والحماية، وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، ودخلت سجل الخلود، ليس كحدث تاريخي عابر، وإنما كمذهب متكامل، لاسترجاع السيادة، وإرساء الملكية الدستورية الديمقراطية، والقضاء على التخلف والجهل والانغلاق. وعلى هدي هذه الثورة المجيدة، أرست الإرادة المشتركة للأمة، ولجدنا ووالدنا المنعمين، جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، قدس الله روحيهما، قواعد دولة حديثة، نقوم اليوم، بتوطيد دعائمها الاقتصادية والاجتماعية. كما شكلت هذه الملحمة التاريخية، التي صنعها جيل 20 غشت، 1953 مدرسة للوطنية المغربية الحقة، للدفاع عن الوحدة الوطنية والترابية والمذهبية، في إطار الالتحام المكين بين الشعب والعرش، الذي كان السد المنيع في وجه كل المؤامرات، والرافعة القوية لكل التحديات. وعلى مدى نصف قرن من الزمن، تواصلت هذه الثورة الدائمة، بما ساهم به كل مغربي ومغربية، بعمله اليومي الدؤوب، كل من موقعه، في أسرته، ومدرسته، ومهنته، وجمعيته في بناء دولة موحدة عصرية. وإذا كان تقدم الأمم لا يقاس بالأحداث العابرة، وإنما بالأطوار التاريخية المتلاحقة، التي يعطي فيها كل جيل أفضل ما يمكن إنجازه للجيل اللاحق. فهل قام كل منا بما يلزم لجعل الشباب، الذي نحتفل بعيده، متشبعا بروح ثورة الملك والشعب، باعتبارها تضحية من أجل الوطن لا تضحية به؟ وهل يحاسب كل واحد ضميره، في كل وقت وحين، ماذا أعطيت لوطني؟ بدل أن يتشكى بكل أنانية، كم أخذت من وطني؟ وحتى لا يقع شبابنا في اختزال أبطال المقاومة في أسماء شوارع بوسط المدينة، فإن على المغاربة جميعا، أن يظلوا أوفياء لروح 20 غشت، في التشبث بقيم الوطنية، وتربية أبنائهم على حب الوطن، الذي جعله ديننا الحنيف من مقومات الإيمان. ولن نبلغ ذلك إلا بترجمة الوطنية إلى مواطنة، ونقل الوعي الوطني من مجرد حب للوطن، إلى التزام فعلي بالمساهمة في بناء مغرب يعتز المغاربة بالانتماء إليه. لقد حققت ثورة الملك والشعب استقلال المغرب، وبناء دولته العصرية. بيد أن صيانة وحدتنا الترابية تظل أمانة تلزمنا بالتعبئة الشاملة، واليقظة المستمرة والتحرك الفعال، من أجل الطي النهائي للنزاع المفتعل من قبل خصوم مغربية الصحراء، المتمادين في معاكستهم لها، بحقد وعداء، إلى حد كشف قناعهم عن كونهم الخصم الحقيقي، الذي تمتد أطماعه من الهيمنة الكاملة على أقاليمنا الجنوبية، من خلال بيادق الانفصاليين، إلى طرح التقسيم، الذي يؤدي لا محالة إلى بلقنة المنطقة برمتها، بدل العمل الصادق على بناء اتحاد مغاربي قوي على أسس سليمة. وفي مواجهة هذا الموقف العدائي، الذي لم يفتأ يعاكس كل الحلول التوافقية التفاوضية المنصفة، ويروج بدلا عنها لحلول ملغومة، فإن المغرب المتواجد على صحرائه، القوي بإجماعه المقدس حولها، المعتز بمساندة أشقائه وأصدقائه، المدركين لعدالة قضيته، يؤكد بلسان خديمك الأول، حفيد محمد الخامس، بطل التحرير، ووارث سر الحسن الثاني، مبدع المسيرة الخضراء، رحمهما الله، أننا جميعا مجندون، بما يرمز إليه هذا اليوم الخالد، من التحام بين العرش والشعب، للدفاع عن وحدتنا الترابية، مهما كلفت من تضحيات، ومهما كانت المناورات والمؤامرات. ولشعبي العزيز أجدد التأكيد بأن المعركة الحقيقية ليست بين أفراد وفئات، أو أحزاب وجمعيات، وأن الخلافات بشأن تدبير الشأن العام، لا يجب أن تنسينا بأن معركتنا المصيرية الحاسمة، هي الدفاع بكل استماتة لصد كل تهديد أو خطر أو تآمر يستهدف النيل من وحدتنا الترابية. ولخصوم وحدتنا الترابية أؤكد باسمك، شعبي العزيز، أن الديمقراطية التي هي نهجنا المتميز للتدبير الحضاري لقضايانا الوطنية، هي على خلاف ما يعتقده هؤلاء الخصوم، من دعائم تقوية الجبهة الداخلية، وقوام وحدة صفنا، والخيار الأنسب للطي النهائي لهذا المشكل المفتعل، الذي يظل المغرب منفتحا على كل حوار بناء وصريح لحله، في إطار الحفاظ على وحدتنا الترابية، وسيادتنا الوطنية، التي لن نقبل أبدا، وأقول أبدا، أي مساومة عليها. وبنفس الإيمان والعزيمة فإن خديمك الأول، يدعوك شعبي الوفي، إلى الانخراط الفعال في ثورة جديدة للملك والشعب، انطلاقا من المرجعيات والأهداف الطموحة، التي حددناها في خطاب العرش، غايتها المثلى تشييد دولة ديمقراطية فعالة، محصنة من كل أشكال التكفير الديني أو الإقصاء السياسي، وبناء اقتصاد متحرر، منتج للثروات والتشغيل، ومجتمع متضامن، ونهضة فكرية، منفتحة على روح العصر، وملتزمة بالهوية المغربية. وقد ارتأينا أن يكون أفضل تعبير عن الوفاء لروح ثورة الملك والشعب في عيدها الذهبي، وخير منطلق لمواصلتها، تجسيد إرادتنا الراسخة لإنصاف المرأة المغربية، التي لا قوام للديمقراطية وحقوق الإنسان بدون رفع كل أشكال الحيف عنها وتكريمها المستحق. ولذلك أصدرنا تعليماتنا السامية إلى اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية كي تنهي أعمالها خلال شهر شتنبر المقبل، وترفع إلى جلالتنا حصيلة أشغالها. وسنتولى بصفتنا أميرا للمؤمنين، والممثل الأسمى للأمة، اطلاعك شعبي الأبي، بما استقر عليه نظرنا السديد في شأن مشروع المراجعة الشاملة للمدونة الجديدة للأسرة، وذلك في مناسبة قريبة إن شاء الله. وفي منعطف حضاري عالمي، اهتزت فيه اليقينيات والمرتكزات، تنتظرنا معركة صعبة ضد الذات، لتحصينها من الانسياق إلى ركوب الأجوبة السهلة، عن الأسئلة الصعبة، والمزايدة الديماغوجية. فمعركتنا الحقيقية هي التعبئة لإنجاز مشاريع الإصلاح الشاقة بروح الاجتهاد والتطور. ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالتمسك بالثوابت الراسخة للأمة، باعتبارها مصدر قوة الهوية المغربية المتميزة، وتعميق روح المبادرة والإنتاج، والتصدي بحزم ووعي، لكل من يركب الفتنة والتضليل والانغلاق لمصادرة مستقبل الأمة وتقدمها. وإذا كنا قد طوينا، بفضل تطورنا الديمقراطي، صفحة تصحيح صورة المغرب بالخارج فإن علينا، بنفس العزم، تصحيح صورة المغربي عن بلده، بترسيخ ثقافة المواطنة، التي تجعله يعتز بمكاسبه، عاملا على تصحيح مكامن الاختلال أو السلبيات، بمشاريع إصلاحية ملموسة، بدل زرع ثقافة التشكيك والعدمية. وفي هذا السياق، وعلاوة على برامج التنشئة على حقوق وواجبات الإنسان، فقد أصدرنا توجيهاتنا السامية إلى حكومة جلالتنا وخاصة وزراء التعليم، كي يكون عماد هذه البرامج، تلقين أطفالنا وشبابنا التربية الوطنية والأخلاقية، كما تشبع بها جيلنا ولا سيما منها التعلق بمقدسات الوطن والغيرة القوية على سمعته. ومثلما كانت السبعة والعشرون شهرا التي قضاها جدنا المنعم والأسرة الملكية الشريفة في المنفى، ذروة التضحية والالتحام بين العرش والشعب، من أجل سيادة المغرب ووحدته وتحرره، فلنجعل من نفس المدة التي تفصلنا عن إحياء الذكرى الخمسينية للاستقلال، فترة حافلة بالعمل الجاد، وتعبئة الشباب لتحصين وحدتنا الترابية، ومكاسبنا الديمقراطية، واستدراك ما تأخر من مشاريعنا الإنمائية وترسيخ مكانة المغرب في محيطه الجهوي والدولي. كما أن علينا أن نجعل من هذه الذكرى الذهبية للاستقلال، وقفة تاريخية لتقييم الأشواط التي قطعتها بلادنا على درب التنمية البشرية، خلال نصف قرن، بنجاحاتها، وصعوباتها، وطموحاتها، مستخلصين العبر من اختيارات هذه المرحلة التاريخية، والمنعطفات الكبرى، التي ميزتها، مستهدفين من ذلك ترسيخ توجهاتنا المستقبلية، على المدى البعيد بكل ثقة ووضوح، مبرزين بكل تجرد وإنصاف، الجهود الجبارة، التي بذلت لوضع المغرب على سكة بناء الدولة الحديثة. وذلكم خير وفاء للذكرى الخالدة لصانعي استقلال الوطن، وأكبر محفز على مضاعفة الجهود لمواصلة بناء المغرب القوي. وما ذلكم بعزيز على عزائم شبابنا، المتشبع بالوطنية التاريخية، الملتزم بالمواطنة الديمقراطية. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته