كان اسحق رابين يتمنى أن يستيقظ ذات صباح ليجد قطاع غزة قد غرق في البحر بكل ما فيه من بشر وحجر، لكن الأقدار لم تكن يوماً صدىً لأمنيات القتلة والمغتصبين، فبقيت غزة عزيزة بأبطالها تطارد رؤوس الغزاة واحداً إثر آخر. منذ قرر "البلدوزر" بكل عنجهيته أن يفر منها لم يترك من أدوات القوة شيئاً إلا واستخدمه في مواجهة صمود أبنائها، فقد اغتال أروع الرجال، وأمعن في حواريها ومخيماتها قتلاً وتدميراً، على أمل أن تستكين وتتركه يرحل آمناً مطمئناً لا تطارده البنادق ولا المتفجرات كما حصل مع سلفه باراك في سياق الانسحاب من الجنوب اللبناني. لم يحدث ذلك، وما كان له أن يحدث، فأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ومن سبقهم من الشهداء لم يبذلوا الدم كي تخضع غزة من بعدهم، لكنهم فعلوا ذلك كي تزداد وفاءً لخيار المقاومة وإصراراً على التحدي، وهو ما كان. الآن تندلع ذكريات الجنوب في العقل الصهيوني وتزدحم الصحف بالنداءات والمقالات والتحليلات التي تطالب بالخروج السريع من غزة، وتقرأ ما جرى خلال الأسبوع الماضي مقارنة بما جرى في لبنان، وتدقق في أوجه الشبه الكثيرة بين الحالتين. الآن يجد شارون نفسه في مواجهة جديدة مع قوى المقاومة وهو الذي صعدت أسهمه باغتيال قادة حماس والمزيد من القتل والتدمير، وهنا سيأخذ وضعه في التراجع من جديد ما سيدفعه إلى مزيد من القتل للحفاظ على شعبيته، وهي السياسة التي استخدمها طيلة السنوات الثلاث الماضية، والتي انطبقت عليها مقولة "سحر القاتل الأزعر" التي أطلقها أحد الكتاب الإسرائيليين. إلى جانب المزيد من القتل وغطرسة القوة سيواصل شارون من خلال السوط الأمريكي مهمة البحث عن شريك يقبل التعامل مع خطته لإخلاء قطاع غزة، والأمل أن لا يتبرع أحد بمنحه هذه الهدية، فإذا خرج من دون قيد أو شرط فليفعل، أما أن يطلب مقابل ذلك مساراً سياسياً يطارد المقاومة ولا يفتح إلا أفقاً لتسوية مذلة فذلك ما لا يقبله إلا المهزومون ممن عاد بعضه إلى الواجهة في الأيام الأخيرة، تماماً كما خرجوا قبل أكثر من عام بمقولات الهزيمة الفلسطينية التي ثبت أنها هزيمة تعشش في وعيهم لا أكثر ولا أقل. في غزة كان الصمود وكان التصدي، وفيما كان الغزاة يظنون أنهم سيفرضون الاستسلام عليها باستهداف رموزها كان الدم الزكي ينبت أجمل الرجال القادرين على مواصلة القتال دون خوف ولا تردد. ما جرى خلال الأيام الماضية وفي سياق إحياء ذكرى النكبة جاء ليؤكد على أن هذه الأرض لن تغير هويتها بحال من الأحوال ما دامت قادرة على إنجاب الرجال الذين يحمون مقدساتها ويقدمون لأجل طهرها المهج والأرواح. في هذه الأيام نتذكر النكبة، لكن الغزاة يتذكرون أيضاً أنهم لا زالوا غزاة ترفضهم هذه الأرض، بدليل دمهم الذي لا يزال يسيل عليها، وهم الذين كانوا يحلمون بالتمدد منها إلى مختلف العواصم العربية والهيمنة على المنطقة. في غزة انتصر الرجال على أشد الأسلحة فتكاً وأثبتوا في ذكرى النكبة أن المقاومة هي سيدة الموقف، وأنها وحدها القادرة على دحر الغزاة، طال الزمان أم قصر. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني