مع إخلاء المستوطنين من قطاع غزة؛ أصبح تقييم الوضع مسألة ضرورية وملحة: من الذي أحرز النصر في سنوات المواجهة الإسرائيلية - الفلسطينية الخمس التي اندلعت بعد انهيار عملية السلام في كامب ديفيد؟ ومن الذي كوى وعي من؟ الجواب البسيط هو أنّ الفلسطينيين قد أحرزوا النصر بالنقاط. إنّ المخيطات في غزة مشغولة حتى رأسها الآن لتلبية طلبيات خياطة أعلام منظمة التحرير الفلسطينية وحماس، اللتين تتنافسان فيما بينهما على رصيد طرد الإسرائيليين البغيضين من القطاع. يُعِدّ الفلسطينيون مسيرات النصر، بينما يُجلل الحزن إسرائيل بسبب التصدع الداخلي وفقدان الحلم، ويخشون من مخاطر ما بعد فك الارتباط. تمنح مقارنة مواقف الجانبين في بداية المواجهة ومواقفهما الحالية؛ تفوقاً واضحاً للفلسطينيين. فهم قد طالبوا بالانسحاب الإسرائيلي من كل المناطق (الضفة والقطاع)، وبدولة تكون القدس عاصمة لها، وبحق العودة للاجئين. وأصرّت إسرائيل من جانبها على الحفاظ على الوضع القائم، وعدم الانسحاب ملليمتراً واحداً، إلى أن يخضع الفلسطينيون ويتنازلوا عن الإرهاب (المقاومة). إلاّ أنّ إسرائيل كانت أول من يرمش، وقرّرت إخلاء جزء من المناطق دون أن تحصل على شيء من الفلسطينيين. لم تتغير مواقفهم السياسية بالمرة، وبالرغم من الضربات التي تلقوها حافظوا على قدرتهم الإرهابية (المقاوِمة)، ولم يقوموا بالإصلاحات. لقد نبع تبدّل القيادة لديهم من وفاة ياسر عرفات، وليس بسبب الضغوط الإسرائيلية. لقد كان التغيّر الأساس في موقف إسرائيل هو تنازل آرائيل شارون عن مطلبه بالاحتفاظ بكل المستوطنات، ومواصلة تطويرها إلى أن تأتي التسوية النهائية. لقد كان هذا أساساً في السياسة الإسرائيلية منذ عام 1994, عندما رفض إسحق رابين اقتراح شمعون بيريز بإخلاء (مستعمرة) نتساريم في اتفاق غزة وأريحا أولاً. لقد ادعت إسرائيل بأنّ المستوطنات هي قضية خاصة بها، وأنه من المسموح لها أن تتصرف فيها كما يحلو لها. لقد تراجع شارون عن ذلك مرتين: في البداية، عندما وافق على تجميد البناء بضغط أمريكي، وبعد ذلك من خلال فك الارتباط. ويبدو في نظرة للوراء، بوضوح، أنّ الإصرار على إبقاء كل المستوطنات في مواقعها، بما في ذلك المعزولة والمتطرفة منها؛ كان حماقة فظيعة. إذ فقد مئات الإسرائيليين والفلسطينيين أرواحهم هباء في المعارك التي دارت حول نتساريم وكفار داروم وغوش قطيف. وقد دُفنت مبالغ ضخمة في رمال غزة لبناء البنى التحتية لهذه المستوطنات والدفاع عنها بلا داعٍ. إنّ القادة الذين يقولون اليوم من الواضح أنّ غزة لم تكن لتبقى في أيدينا في التسوية الدائمة؛ مُلزَمون بسؤال أنفسهم عن سبب إصرارهم على الاحتفاظ بمكان ليس له مستقبل. هل نادوا بذلك الموقف فقط لأنهم خشوا من الصدام الداخلي مع المستوطنين وأنصارهم السياسيين؟. لقد أفلح الفلسطينيون في كيّ الوعي الإسرائيلي، وأقنعوه بفكرة عدم جدوى المشروع الاستيطاني والاعتراف بقصور القوة ومحدوديتها وأهمية الشرعية الدولية. ومن الواضح لإسرائيليين كُثُر، بمن فيهم رئيس الوزراء؛ أنّ غزة أولاً ليست غزة أخيراً، وأنّ إخلاء واسعاً للمستوطنات سيحدث في الضفة أيضاً. ولكنّ الفلسطينيين أيضاً دفعوا ثمناً باهظاً يتجاوز الأضرار المباشرة التي لحقت بهم جراء الانتفاضة. فإسرائيل لم تُهزم، ووزير الدفاع شاؤول موفاز محقّ في قوله إنّ العمليات تراجعت من قبل تنفيذ فك الارتباط بكثير، وأنّ محمود عباس قد تخلّى عن سياسة الإرهاب (المقاومة) التي اتبعها سلفه. إنّ نهج كل شيء أو لا شيء الذي سار عليه عرفات في كامب ديفيد؛ كلّف الفلسطينيين ثمن التخلي عن العملية السياسية والتوجّه لخطوة إسرائيلية أحادية الجانب، هذه الخطوة التي حظيت بالتأييد العالمي الواسع. إنّ إسرائيل هي التي حدّدت حجم الانسحاب وتوقيته، بينما يتباكى الفلسطينيون من مؤامرة شارون الساعي إلى التنازل عن غزة مقابل تعزيز السيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية وشرقي القدس. لقد كانت كافة التحركات السياسية بين إسرائيل والعرب نتيجة للحروب، وعبّرت عن توازن القوى في آخرها: الهدنة مع انتهاء حرب الاستقلال (حرب فلسطين 1948 والنكبة) والسلام مع مصر بعد حرب يوم الغفران (حرب رمضان 1973) واتفاقات أوسلو بعد الانتفاضة الأولى (الانتفاضة السابقة). إنّ فك الارتباط (الانسحاب) الذي اختتم الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) هو حلقة في هذه السلسلة. ويشير حجمه المحدود والسيطرة الإسرائيلية المتواصلة على الضفة إلى أنّ الانجاز الفلسطيني كان جزئياً. والسؤال الذي سيبقى مفتوحاً في الوقت الراهن؛ هو هل سينجح الجانبان في التحرك من هذه النقطة نحو تسوية أكثر استقراراً، دون المرور في حروب إضافية؟.