قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه. أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) المائدة الآية: ..56 هذا نداء للذين آمنوا جاء في صيغة تحذير لكل من يتوهم منهم أن نصرة هذا الدين تتوقف عليه: وأنه بدونه لن ينتصر هذا الدين ولن تقوم له قائمة، ويمكن أن يقاس عليه كل شأن من شؤون الحياة يظن فيه الظان أنه لن يستقيم إلا به. وهذا يبين تنوع نداءات الإيمان، فمنها الأمر ومنها النهي ومنها الخبر ومنها التحذير... افتقار العباد إلى الله وجاءت الآية لرد الأمور إلى نصابها محذرة ومخبرة أن الله قادر على أن يأتي (بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) فيتأكد أن هذا المرتد فردا كان أو جماعة لم يضر إلا نفسه ولم يضر الله شيئا. ومبدأ افتقار العباد كلهم إلى الله، وغناه سبحانه وتعالى عنهم جميعا قد أشار إليه القرآن في مواضع عديدة: منها قوله تعالى: (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) إبراهيم .8 فبين تعالى هنا غناه عن طاعة سائر الخلق. ومنها قوله عز وجل: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) المنافقون .7 فبين سبحانه غناه عما بأيدي الناس مع أنه المنعم عليهم سبحانه. ومثله قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) التوبة ,40 فبين تعالى غناه عن مساندة الخلق في نصرة، أنبيائه وأنه قد نصر عبده يوم أخرجه الذين كفروا ولم يكن معه حينها سوى صاحبه أبا بكر الذي خاف عليه فطمأنه بقوله (لا تحزن إن الله معنا)... إلى غير ذلك من الأمثلة. البقاء للخيرية والمؤمن حين يبذل ما يبذل مستصحبا غنى الله عنه يكون أقرب إلى الإخلاص والإحسان في عمله، ويكون شغله الشاغل كيف يرضي ربه، ويردد ما قاله الشيخ الشهيد المجاهد أحمد ياسين ومن قبله ومن بعده أملي أن يرضى الله عني. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم) دال على قدرته سبحانه المطلقة في التصرف في الكون، إذ يخبر أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فان الله يستبدل به من هو خير لها منه واشد منعة وأقوم سبيلا. وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى: (و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) وقوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) أي ليس بممتنع ولا صعب. وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أوصاف الذين يأتي بهم: شروط التمكين الحضاري الصفة الأولى: (يحبهم ويحبونه)، وقد بدأ بها لأنها الأهم والأصل لما بعدها. ومحبة الله للعبد منحة عظيمة لا يدركها إلا من وفقه الله غاية التوفيق. وبدأ بمحبته لهم دفعا لتوهم أنها نتيجة لمحبتهم له بل محبتهم له توفيق منه إليهم إذ مهما بدل المؤمن لا يمكن أن يدرك درجة يستحق فيها هذه المحبة على جهة الحتم فعلمنا أن محبة الله للعبد هي من أجل نعمه على العبد وإن كان هذا لا ينفي أن الطريق إليها هو بقدر ما يبذل العبد من الطاعات مع الإخلاص والمتابعة. وهذا المعنى شبيه به قوله تعالى :رضي الله عنهم ورضوا عنه الصفة الثانية: (أذلة على المومنين أعزة على الكافرين)، هذه صفة أخرى من صفات المؤمنين الذين يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه متعززا، على خصمه وعدوه. وهو نفس معنى قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) أي يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة على الكافرين. وهذه الصفة مما يحتاج لبعض التدقيق حتى لا تحمل على غير المراد بها فالعزة هنا لا تعني العدوان. والذلة لا تعني المحاباة والحمية المطلقة، لأن ذلك ينافي العدل المأمور به مع القريب والبعيد. الصفة الثالثة: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)، أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود وقتال أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد ولا يصدهم عنه صاد، يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين بل هم متصلبون لا يبالون. وقوله تعالى: (ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم) تأكيد لما سبقت الإشارة إليه من أن كل هذا الخير بدءا من محبة الله وحتى الجهاد كله من فضل الله ومن توفيقه. وإن كان هذا لا ينفي ضرورة السعي إليه والصبر عليه والإلحاح في طلبه كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وهو تذكير بأن الفضل بيد الله وأنه يمنحه أقواما ويحرم منه أقواما بحسب سيرتهم. د.مولاي عمر بنحماد